كيف كبرت شاشة التليفزيون وصغرت شاشة السينما؟!
شهور قليلة تفصلنا عن نهاية عام 2023 ، وبحسابات المواسم السينمائية إنتهت أهم فترات العرض الجماهيري، ومع دخول الموسم الدراسي أصبحت إكتملت قائمة الأفلام التي قدمتها السينما المصرية خلال العام الجاري، إلا عدد قليل من الأفلام المؤجلة، و ستُعرض غالبًا في فترة أعياد نهاية العام وإجازة مُنتصف العام الدراسي، وخلال الفترة القادمة سيكون على لجنة إختيار الفيلم المصري المُرشح للأوسكار عقد جلسات مُشاهدة الأفلام المُرشحة، وإختيار الفيلم الملائم لشروط الجائزة، وهو أمر عسير في ظل حالة تراجع سينمائي يتناقض مع إرتفاع نسبي في مستوى جودة أفكار وتنفيذ المسلسلات التليفزيونية.
الدراما التليفزيونية الطموحة!
من أهم الإنجازات التي حققتها الدراما المصرية خلال السنوات الأخيرة كان وصول إسم الممثلة "منة شلبي" إلى قائمة المرشحات لجائزة أفضل ممثلة عن فئة جوائز إيمي الدولية للتمثيل عام 2021، وكان ترشيحها عن دورها في مسلسل "في كل أسبوع يوم جمعة" المأخوذ عن رواية للكاتب "إبراهيم عبد المجيد"، وإخراج "محمد شاكر خضير"، وإنتاج منصة "شاهد"، ولا يقلل حصول الإنجليزية "هايلي سكوايرز" على الجائزة من قيمة إنجاز "منة شلبي" الغير مسبوق؛ وهو إنجاز يؤكد أن الدراما التليفزيونية أكثر طموحًا وإبداعًا مما تقدمه السينما، دون إستثناء أيضًا لأداء "منة شلبي" المتواضع في عدد من أفلامها الأخيرة؛ مثل "الإنس والنمس" ولكنها تعود لتقديم أداء متميز أخر في "بطلوع الروح"، ولكنه أيضًا مسلسل وليس فيلم سينمائي.
يقترب شهر سبتمبر من منتصفه، ومع إستمرار إرتفاع درجات الحرارة في يُتابع الجمهور العربي بشغف دراما الجريمة التي تعرضها منصة "شاهد" بعنوان "سفاح الجيزة"، بطولة "أحمد فهمي"، وهو مسلسل قصير مُقتبس من وقائع حقيقية عن قاتل متسلسل لا زالت قضيته منظورة أمام المحاكم، وقبل هذا العمل بشهور عُرض مسلسل الرعب "غرفة 207"، وهو مُقتبس عن أحد روايات "أحمد خالد توفيق"، وقد تفوقت الدراما التليفزيونية في إقتحام موضوعات متنوعة وجذابة، ومُعالجتها بجدية فنية.
خلال العام الجاري عُرضت مسلسلات مثل "تحت الوصاية" و"أزمة منتصف العمر" و"تغيير جو"، ورصد كل منها حكايات إجتماعية بملامح درامية مُختلفة، وكانت مؤثرة وشهدت جدلًا إستمر فترة بعد نهاية عرضها، وتسير المسلسلات الكوميدية في طريق البحث عن أشكال وشخصيات جديدة من خلال أعمال ذات مضمون درامي جذاب؛ فبرزت أسماء جديدة مُبشرة؛ منها الممثل "عصام عمر" في مسلسل "بالطو"، والممثل "طه دسوقي" في مسلسلي "موضوع عائلي" و"الصفارة"، وهذا المسلسل الأخير قدم الممثل "أحمد أمين" في شكل كوميدي جذاب يلائم أسلوب أدائه الساخر.
هذه الأعمال وغيرها تؤكد أن هناك خطوات مُتقدمة وناجحة للدراما التليفزيونية، أبرزها الدفع بنجوم شباب لديهم موهبة إلى الصفوف الأمامية، والإهتمام بكتابة أعمال درامية متنوعة بعيدة عن الثيمات النمطية التقليدية، وأيضًا خلق مواسم عرض ناجحة خارج موسم شهر رمضان المزدحم.
السينما تكرر نفسها!
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو لماذا لا تُقدم السينما المصرية أعمالًا في مستوى الدراما التليفزيونية؟ هناك عناصر مُشتركة تجمع بين الدراما التليفزيونية والسينمائية؛ أهمها أن من يقومون بصناعة المسلسل أو الفيلم هم نفس الأشخاص تقريبًا، نفس الممثلين والكتاب والمخرجين وباقي عناصر الصناعة، ولكن تختلف الرؤي إلى درجة التناقض حينما يتم التفكير في صناعة الأفلام.
حسابات شباك التذاكر تؤكد أن السينما تكسب وتحقق الملايين؛ ولهذا فكل المكتوب في السطور السابقة يُصبح عبثًا وكلام غير دقيق، ولكن طرح المقال لا يقارن عدد المشاهدات والأرباح التي تُحققها المسلسلات والأفلام؛ فهذا المقال لا يقارن مكاسب شركات الإنتاج المالية، ولكنه يرصد واقع واضحًا، وهو أن نجاح المسلسلات خلال السنوات الأخيرة يجمع بين النجاح المادي والفني؛ فالأعمال الجيدة تحظى بعدد مشاهدات كبيرة وهي جيدة على المستوى الفني، بينما تعتمد أفلام السينما على خطف الإيرادات الموسمية وهي تُقامر بشريط سينمائي فقير فنيًا؛ وربما يفوز هذا الفيلم الرديء بكاريزما البطل وبضعة افيهات هنا وهناك، ولكن لا يحتوي على أي مشروع فني من أي نوع.
يكرر نجوم بداية الألفينيات خلطتهم السرية للنجاح ولكنهم يُخفقون غالبًا؛ حاول "محمد هنيدي" إستعادة نجاحاته المُدوية، وقدم خلال السنوات الماضية أعمال متواضعة للغاية؛ مثل "الإنس والنمس"، و"نبيل الجميل أخصائي تجميل"، ثم قدم مؤخرًا فيلم "مرعي البريمو"، وكانت دعايته تؤكد أنه الفيلم الذي سيعوض جمهوره عن أفلامه المتواضعة الأخيرة، ويُحسب لهنيدي إعترافه بمستوى أعماله السابقة بأريحية، بدلًا من سب النُقاد الذين بح صوتهم من تأكيد تدهور مستوى أفلامه، ولكنه كرر نفس خلطة أفلامه القديمة فلم تكن نتيجة "مرعي" تختلف كثيرًا عن "الإنس" و"نبيل الجميل"؛ لم يبحث "هنيدي" عن كوميديا جديدة، ولكنه كان يبحث عن "هنيدي" القديم.
بعض الأمل في القادم!
تقديم أفلام سريعة التجهيز، وصالحة للمشاهدة لمرة واحدة، هذا مضمون أغلب ما قدمته السينما المصرية خلال عام 2023. فكرة الفيلم مُجرد إطار هامشي لتقديم البطل في مواقف سطحية مُضحكة تُداعب ذوق جمهور النجم الذي لا زال يُحب نجمه ويبلع له الزلط، وينسى "تامر حسني" في فيلم "تاج"، و"محمد رمضان" في فيلم "هارلي" أن نجاح هذا النوع من الأفلام لا علاقة له بجودة الفيلم، وأنهما يسحبان بإسراف من رصيدهما لدى الجمهور، وسيصلان إلى نفس الطريق الذي سبقه إليهما نجوم إستخفوا بالفن والجمهور.
على مسار أخر يستمر "كريم عبد العزيز" في تحقيق نجاحًا مستقرًا خلال السنوات السابقة، والإجابة تكمن في إختياراته، وهي إختيارات لا تبتعد كثيرًا عن النوعية التجارية السائدة، ولكنها تُحافظ على إطار فني مقبول، وتتضمن فكرة يُمكن البناء عليها دراميًا، وخالية من الافيهات المُكررة السطحية، وهو يستطيع التعاون مع أدوار منافسة له من حيث المساحة والتأثير؛ مثل ثنائيته مع "أحمد عز" في فيلم "كيرة والجن"، ومؤخرًا ثنائيته مع "كريم محمود عبد العزيز" في فيلم "بيت الروبي"، وأخيرًا هو ممثل لديه القدرة على تلوين أدائه بين الكوميديا والتراجيديا، وهو يُجيد الإستفادة من هذا في أداء نوعيات مختلفة من الأفلام.
هناك محاولات مُبشرة سينمائيًا لكنها لم تتشكل لتكون حالة فنية جماهيرية صالحة للتكرار؛ مثلًا الإهتمام بالطفل في فيلم "ساعة إجابة" بطولة الطفل "سليم مُصطفى"، وهو دراما لطيفة عن طفل يرفض والديه، ويدخل في مغامرات خيالية مع شخصيات بديلة لوالديه، وفيلم "شلبي" بطولة "كريم محمود عبد العزيز"، وهو فيلم حاول سرد أزمة طفلة تعاني حالة نفسية سببت لها حالة خرس مؤقتة، ولكن السيناريو ركز على قصة الشاب الذي يُحاول علاجها بواسطة عروسة يحركها، وهناك كوميديا إجتماعية لطيفة لا تحمل حساسيات مساحات الأدوار والظهور على الشاشة، وأعني فيلم "وش في وش" بطولة "محمد ممدوح" و"أمينة خليل" وعدد كبير من الممثلين الذي أجادوا في صنع حالة درامية جذابة على الشاشة.
نعم السينما في حالة تدهور فني حاد، والحل لن يكون أبدًا في تكرار القوالب والوصفات القديمة؛ فتكرار نفس الخطوات الفاشلة مرة تلو المرة أملًا في النجاح هو وصفة الفشل؛ فالنجاح لا يأتي صدفة حتى لو بدا كذلك أحيانًا، وصُناع السينما تغيب عنهم آليات التحليل العلمي لكل نجاح أو فشل، ولهذا يبدأون في المقامرة وإعادة الإختيارات القديمة، ولا يصلون إلى شىء جديد في النهاية.
الصور من حسابات الأفلام والمسلسلات على تويتر وإنستجرام.