تصيب الأفراد بحالة نفسية صعبة.. ماذا تعرفين عن الصدمة الجماعية في ظل ما نعيشه من حولنا؟
أن تكوني على بعد آلاف الكيلومترات من مكان النزاع، لكنكِ مع ذلك؛ تشعرين بنفسكِ جالسةً في منتصف أماكن القصف، تحسين بلهيب النار الناجم عن القذائف، صوتها المُدَوي يصمَ أذنيكِ فتُصابين بالخوف وتبدأين بالصراخ عاليًا.
وأنتِ جالسةٌ على مقعدك داخل منزلكِ، يعتريك الذعر وأنتِ تشاهدين الأطفال والنساء وكبار السن يبكون فيما يركضون خوفًا من شظايا الصواريخ. تبكين بعضهم ممن قتلته تلك الصواريخ، وتصرخين بصوت مكتوم وأنتِ ترين الأطباء يحاولون إسعاف من أصيب. لاشعوريًا، تضمين أطفالكِ وأحبتكِ إلى صدركِ، كأنكِ تخشين من فقدانهم.
تعيشين الرعب والضرر النفسي، تبكين طوال النهار وعيناكِ مسمرتان على التلفاز أو منصات التواصل الإجتماعي. لسانكِ يلهج بالدعاء، وتترقبين أي بارقة أمل لوقف لإطلاق النار يريحكِ ويريح الناس في مكان النزاع من هول ما يصيبهم.
ثم يغالبكِ التعب والنوم، تضعين رأسكِ على المخدة طلبًا للراحة والنوم؛ لكن النوم يجافي عينيكِ، وإن استطعتِ النوم ولو قليلًا، تراودكِ الكوابيس المزعجة. فتستيقظين مذعورةً باكية!
لا تقلقي عزيزتي، لستِ وحدكِ من يعاني هذه المشاعر.. كلنا تقريبًا على امتداد الوطن العربي، وحتى الغربي، نشعرُ بالمشاعر ذاتها. ليلنا لم يعد ليل، ولا نهاراتنا تشبه النهارات الطبيعية التي اعتدنا عليها في السابق؛ كلنا نبكي فلسطين، ونقف عاجزين عن فعل أي شيء لأخوتنا في غزة وهم يتعرضون للقصف الوحشي الممنهج. نعيشُ ما يشبه حالة الشلل التام، في الجسم والعقل والروح.
هو ما يُطلق عليه المختصون تسمية "الصدمة الجماعية"؛ التي تصيب من يعيشون خارج إطار الكارثة، لكنهم يجدون أنفسهم داخلها. وهو ما تُخبرنا المزيد عنه السيدة خديجة القطامي،المتحدث الرسمي بإسم شركةAmal؛ وهي المنظمة الاستشارية الخاصة الوحيدة غير الربحية في دولة الإمارات العربية المتحدة،والمُكرسة لإحداث ثورة في مجال الصحة العقلية في المنطقة.
بدايةً؛ لو نعرف منكِ تحديدًا ماهي الصدمة الجماعية؟
لطالما تمت مناقشة الصدمات النفسية وطرقنشأتهاومدى تأثيرها على الفرد وعلى نمط حياته. ولكن في الآونة الأخيرة، تمَ تسليط الضوء على نوع آخر من الصدمات التي لا يقتصر تأثيرها الفرد بشكل أخص،بل تمتد ليكون لها أثرٌ على مجموعة كبيرة من الافراد. وهذا ما لاقى اهتمامًا من المختصين بشكل كبير في الأعوام الماضية، تزامنًامع ظهور الكوارث والأزمات التييشهدها العالم.
الصدمة الجماعية هي حالة نفسية جُماعية، تتمثل في تأثر مجموعة كبيرة من الافراد قد يربطهم مجتمع واحد أو ظروف معينة، بتجربة صادمة أو كارثية. ما يؤدي إلى ظهور مشاعر أو ردود فعل متشابهة بين جميع الأفراد المتأثرين؛ مثل الذكريات المؤلمة التي بدورها تُغيَر تعريف المجتمع لذاته. حيث أن هذه الذكريات لا يقتصر تأثيرها كماضٍ مؤلم في حياة الأفراد، بل أنها تبقى مستمرةًعبر الأجيال، في إعادة إحداث الصدمة لمحاولة تفسيرها وإيجاد معنى لها عبر الأجيال.
على الرغم من أن التعامل مع هذه التجربة قد يكون عن طريق جميع المتضررين، إلا أنه قد يكون هناك اختلافٌ في أثر الصدمة على كل فرد؛ مما يؤدي إلى وجود اختلافات فردية متفاوتة بطبيعة الحال.
كيف ومتى تحدث الصدمة الجماعية؟
تحدث الصدمة الجماعية عندما تواجه مجموعةٌ كبيرة من الافراد، حدثًا يؤثر على سير الحياة اليوميةويهدد آمنهم، وصحتهم، ورفاههم؛ ما يتوجب عليه تغيرٌ ملحوظ في نمط حياتهم قد يستلزم إجراء بعض التعديلات أو استحداث الأعراف الاجتماعية والسياسات المتعارف عليها في محاولةٍ للتأقلم والاستمرارية. ومن الأمثلة على الصدمة الجماعية؛ الحروب،الهجمات الإرهابية، الكوارث الطبيعية، الأوبئة، وغيرها.
قد يكون من أبرزها ما شهده العالم خلال أزمة كوفيد-19 في الاعوام الماضية، وما كان لها من تبعات مستمرة حتى وقتنا الحالي؛ ملقيةً بأثرها على العالم أجمع. حيث أنه مع الانتشار الكبير والمفاجئ للوباء، استلزم على حكومات العالم سنَ العديد من السياسات والإجراءات في محاولةٍ للحفاظ على حياة البشرية مثل؛ الحجر الصحي، التباعد الاجتماعي، نظام العمل والدراسة عن بعد، وغيرها.
تُخلَف هذه الاحداث ما يُطلق عليه المعاناة الجماعية الناتجة من الخسائر الجمة التي ألحقته بالغالبية العظمى،وتتمثل بخسارة الأغلبية لفرد من العائلة أو صديقٍ عزيز.
من الضروري معرفة أن تأثير الصدمة الجماعية لا يقتصر فقط على أولئك الذين يعيشونها، بل إنها قد تمتد للأفراد الذين قد يشهدونها؛ حتى لو كانوا في مكانً ووقتٍ مختلفين. مما يسهم في استمرارية الصدمة النفسية الجماعية على مدار أجيال؛ ولكن قد تختلف طريقة تذكَر من شهدوا أحداث الصدمة دون أن يعيشوها، عمن كانوا جزءًا من أحداثها.
ما يسهم في استمرارية الصدمة الجماعية عبر الأجيال، هي من خلال ما تعنيه الصدمة لكل من تأثر بها بشكل مباشر أو غير مباشر؛ وذلك بنقل التعاليم والتقاليد الثقافية التي نشئت إثر التهديد التي مرت به الجماعة في وقت محدد،وهو ما يُعزَز الحفاظ على الجماعة مخففًا قلق التهديد الوجودي. كما أنها تصبح جزءًا من الهوية الجماعية للمجتمع، في محاولة لإيجاد معنى للصدمة، حتى تصبح جزءً من مفهوم المجموعة لبيئتهم وثقافتهم الاجتماعية.
ماهي أعراض الصدمة الجماعية، وهل تحمل أية مخاطر؟
من الاعراض المشتركة التي ممكن ملاحظتها عند المصابين بالصدمة الجماعية:
- الغضب: وهو شعورٌيصاحب الإحساس بوجود الظلم وعدم العدالة.
- الضغط النفسي: من الأعراض المصاحبة للشعور بعدم وجود الأمن والأمان، والتوتر.
- ذنب البقاء: حالةٌ من التوتر النفسي والعاطفي التي قد يمر بها الفرد الذي نجى من حادث أو حدث، قد توفى على أثره فرد أو مجموعة أفراد آخرين.
- القمع الداخلي: هو الشعور بالذنب الذي يمرَ به الناجون، حيث يتسألون عما إذا كان ينبغي عليهم فعل شيء في وقت الحدث لإنقاذ المتوفين. بالإضافة للاعتبار الاجتماعي، حيث يشعرون بأنهم ملزمون بالشعور بالألم والحزن المستمر على نجاتهم ووفاة الآخرين،مما قد يُسبَب لهم ضغطًا نفسيًا.
- الاكتئاب: هو اضطراب المزاج الذي يُسبَب شعورًا متواصلًا بالحزن، وفقدان الاهتمام بالمهام اليومية، والأنشطة التي كان يستمتعالفرد بممارستها في الماضي.
- القلق: عادةً ما تُصاحب الافراد المُعرضين للصدمة النفسية، اضطراباتُ وأعراض القلق مثل نوبات الهلع التي قد تنتج لممارستهم بعض النشاطات المرتبطة بالحدث الصادم بشكلٍ أو بأخر.
- أزمة وجودية: هذا ما يحدث عند إيجاد صعوبة في تفسير الأحداث المؤلمة التي قد يمرَ بها الفرد أو مجموعة من الأفراد، إثر فقدانهم للتواصل مع العالم؛ مما قد يترتب على تشكيك الفرد في إمكانياته ومعتقداته.
يعتمد ظهور الأعراض على اختلاف طبيعة الحدث الصادم الذي واجههالفرد، فعلى سبيل المثال؛ إثر العزل الاجتماعي الذي عايشه العالم خلال انتشار وباء فيروس كورونا، عانى البعض من انخفاض في الثقة بالنفس وتقدير الذات، وذلك بسبب قلة التواصل مع الاخرين. إضافةً إلى ارتفاع مخاطر الإصابة بالأمراض المزمنة كنتيجة للضغط النفسي.
ما هي الطرق العلاجية للصدمة الجماعية؟
بعد مناقشة تعريف الصدمة النفسية الجماعية، أسبابها، أعراضها وأثارها؛ لابد من التطرق للوسائل المختلفة للتعامل معها وعلاجها.
من الضروري نشر التثقيف والتوعية عن هذه الظاهرة وأعراضها. كما أن طلب المساعدة من المختصين في مجال العلاج النفسي، له دورٌ هام من خلال توفير مساحة آمنة للأفراد للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، ومساعدتهم في تخطي مراحل الحزن والتعامل مع المشاعر الأخرى.
من أبرز الطرق العلاجية، هي الرعاية المبنية على أساس فهم الصدمة؛ والتي تتوفر فيها البيئة الداعمة والآمنة التي تهتم باحتياجات المصاب بشكل فردي. بالإضافة إلى أهمية توفير الدعم الأسري والمجتمعي، من خلال إنشاء مجموعات الدعم التي المُشجعة والمحفزة للمتضررين خلال عملية العلاج؛ وذلك عن طريق التواصل مع الافراد الاخرين مِمن واجهوا هذه التجربة.
ومن الممارسات التي يمكن أن تُسهم بشكل إيجابي في العملية العلاجية، الاهتمام بالصحة الذاتية من خلال ممارسة الرياضة وتمارين التأمل والتنفس. ولابد من ذكر دور الدول في إجراء التعديلات في بعض السياسات، لتساعد على توفير بيئة تسهم في دعم الافراد لتخطي هذا النوع من الصدمات.
كيف يمكن أن نحمي نفسنا وأطفالنا من الوقوع في الصدمات الجماعية؟
كما ذكرنا سابقًا، فإن الصدمة الجماعية يمكن أن تستمر وتنتقل لسنوات عبر الأجيال؛ لذلك من الضروري أن نحرص على حماية أبنائنا من خلال الحد من استمرار هذه الظاهرة.
من الممكن تحقيق ذلك من خلال فتح المجال للنقاشات المفتوحة مع اليافعين والأطفال، بما يتعلق بهذا الموضوع وتثقيفهم حوله،وبما يتناسب مع فئاتهم العمرية. كما يمكن المساهمة في حماية أطفالنا عن طريق طمأنتهم بوجود مع يهتم لأمرهم ويعتني بهم على الدوام؛ ومساعدتهم في التعرف على بعض علامات الخطر والأعراض، وتشجيعهم على اللجوء إلينا لطلب المساعدة في حال الحاجة. كما أنه من الضروري التحكم والحد من تعرضهم لوسائل الإعلام وما تنقله من معلومات ومشاهد عن هذه الاحداث.
في الختام، يُعد الإلمام بالصدمة الجماعية ومظاهرها أمرًا في غاية الأهمية؛ ما يتطلب بذل المزيد من الجهد لنشر الثقافة والوعي حول طبيعتها وأعراضها بين العاملين في مجال الصحة النفسية وعامة المجتمع. فإن لذلك دورٌ مهم في الإسهام بتوفير وسائل المساعدة المثلى،وتمكين الذين يعانون منها منممارسة حياتهم بأكبر قدر من الإنتاجية. ما سينعكس أثره دون شكفي حماية الأجيال القادمة.