الشابة غرايس مورا تكشف لـ"هي" صراعها مع فقدان الشهية: مرض أشبه بالانتحار البطيء
دبي - "سينتيا قطار" Cynthia Kattar
لأنّ مجلة "هي" معنيّة بشؤون المرأة بمختلف أوجهها، نسلّط الضوء في هذه السطور على مرض صامت، نادراً ما يتمّ تناوله في الدول العربية والخليجية، أو حتى الاعتراف بوجوده، والكشف عن خفاياه النفسية والجسدية. إنه مرض فقدان الشهية التي قرّرت الشابة غرايس مورا الكشف عن تفاصيل معاناتها معه.
"التحدي الحقيقي كان الاعتراف بأنني أعاني مشكلة حقيقية وخطيرة، وبأن الأمر خارج عن سيطرتي، وبأنني على وشك خسارة كل شيء في حياتي".. بهذه الكلمات تصف مورا رحلتها مع مرض فقدان الشهية الذي يُعتبر من أخطر أنواع الإدمان النفسي. تعرّفت إلى غرايس منذ سنوات. شابة تتمتّع بطاقة استثنائية، وحيوية لافتة، مُغامرة وعاشقة للحياة، تابعتها خلال هذه السنوات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولطالما كنت معجبة بصورها، وأناقتها البسيطة. لكن ما لم أكُن أعرفه أنّ خلف هذه الصور الجميلة صراعا مع مرض نفسي صامت، كاد يودي بحياتها.
في هذا اللقاء المؤثر، تكشف غرايس عن خفايا مرض فقدان الشهية، عن خطورته، مُسلّطة الضوء على الخطوات التي يجب اتّخاذها لتخطّي آثاره النفسية والجسدية.
هل يمكنك مشاركة رحلتك الشخصية مع مرض فقدان الشهية، بما في ذلك متى بدأت؟ وكيف بدأت؟ وما الذي دفعك لطلب المساعدة؟
قصتي مع مرض فقدان الشهية بدأت فعليا منذ نحو سنتين، من دون أن أدرك فعليا حقيقة المرض. بدأت تدريجيا عندما بدأت أشعر بالحاجة الماسّة لفقدان الوزن وعدم الاكتفاء بحد معين، خصوصا عند النظر إلى المرآة، حيث ما زلت حتى الساعة أشعر بأنني "ذات وزن زائد"، بغض النظر عن وزني الحقيقي. كنت أعتقد أن الأمور تحت السيطرة، وأن الأمر مجرد رغبة في خسارة الوزن والحصول على الرشاقة، إلا أن الموضوع بدأ يتدهور عندما توقفت عن تناول الطعام عن قصد، وتجويع نفسي، وصولا إلى إجبار نفسي على القيء، وتوفير وجبات الطعام.
كنت أستيقظ في منتصف الليل وأشعر بالذنب الشديد لتناولي الطعام، ولو كميات صغيرة، ما أثّر سلبا وإلى حد كبير في نفسيتي، وقدرتي على التركيز في العمل، وحياتي الاجتماعية، فبت أفضل العزلة تفاديا لنشاطات الطعام مع الأصدقاء، معاناتي مع الانهيار العصبي بعد كل عطلة سفر وشعور الذنب القاتل من الاستمتاع بتجربة الطعام في بلد جديد وصولا إلى حياتي العاطفية، فبت أشعر بأنني لا أستحق متعة الحب ارتباطا بعدم الشعور بمتعة التلذذ بالطعام.
ما دفعني فعلا إلى طلب المساعدة، تدخل الأصدقاء الذين حاولوا بشتى الوسائل مساعدتي معنويا وماديا على تمالك نفسي بعيدا من الانهيار الصحي الذي كنت أعاني منه، والخطر الذي بت أشكله على حياتي وحياة الآخرين، من دون قصد.
كان الموضوع أشبه بالانتحار البطيء من دون أن أدرك، فكان كفيلا بأنني تلقيت مرة مكالمة هاتفية من شخص مقرب للغاية، شكل الدافع الأساسي للتحرك وطلب المساعدة من اختصاصيين، خصوصا عندما أدركت أنني أعيش وهم السيطرة على الأمور في حين العكس كان صحيحا، فكان كافيا أن يقول لي: "لا يمكننا أن نخسرك وأنت في طريقك نحو الهاوية".
ما أكبر التحديات التي واجهتها أثناء معركتك مع فقدان الشهية، سواء جسديا أو عاطفيا؟
لعل أكبر التحديات هو إقناع نفسي بضرورة إحداث تغيير جذري في حياتي، وضرورة التوقف عن الرغبة في الاستمرار في خسارة الوزن الشديد، والاقتناع بأنني نحيفة. فبنظري أنا أبعد ما يمكن عن النحافة، فدخلت في مقارنة مع كل امرأة أراها لأرى من الأنحف.
عانيت من الأرق، ومشكلات صعبة في التركيز والذاكرة، والرغبة الدائمة في النوم، والحزن الشديد وصولا إلى مرحلة الانهيار العصبي والبكاء، وعدم الرضى عن الصورة الخارجية والداخلية لشخصي.
ولعل التحدي الحقيقي كان الاعتراف بأنني أعاني مشكلة حقيقية وخطيرة وبأن الأمر خارج عن سيطرتي، وبأنني على وشك خسارة كل شيء في حياتي.
علما أن المعركة مع هذا المرض الفعلي والحقيقي ليست بالسهلة أو التي تحل بسحر ساحر أو بدواء، هي عملية يومية ومستمرة على مدار الساعة منذ اللحظة الأولى في الصباح والصعوبة في النهوض وارتداء الملابس التي تشكل تحديا صعبا بالنسبة إلي، خصوصا صعوبة النظر إلى المرآة، والشعور بأنني "لست جميلة" ومن الضروري أن أخسر الوزن.
كيف أثر فقدان الشهية في علاقاتك مع الأصدقاء والعائلة؟ وما نوع الدعم الذي وجدته أكثر فاعلية أثناء فترة تعافيك؟
الصعوبة الأولى كانت محاولة الإخفاء الدائمة والمستمرة للمشكلة، والتظاهر بأنني بخير وصولا إلى الاضطرار إلى الكذب عليهم. إلا أنني أعتبر نفسي محظوظة للغاية بوجود هذا الكم الهائل من الحب والحنان والدعم من المحيط، سواء من العائلة أو الأصدقاء، الذين كانوا إلى جانبي في كل خطوة من العلاج، بدءا من الانهيارات العصبية اليومية وصولا إلى إقناعي بضرورة العلاج، وصولا إلى الاحتفال سويا بخطوات التعافي البطيئة والجميلة.
لعل أكثر عامل كان مهما وحيويا بالنسبة لي هو الحب الذي وجدته، الحب لكل ما في شخصي، من ردات فعل عصبية تتسبب في أذية البعض أحيانا، أو اكتئاب شديد أثر في المحيط إلا أن ثقة البعض بي، التي كنت قد فقدتها، شكلت محفزا كبيرا بضرورة التعافي، "فأنا قوية وجميلة وذكية مهما كان وزني أو شكلي.
هل يمكنك وصف نقطة التحول أو الإدراك الذي دفعك لطلب العلاج والعمل نحو التعافي؟
تدخل مفاجئ لأصدقاء مقربين لي أثناء تمضية عطلة سفر معهم في فرنسا، حين أعربوا علنا عن خشيتهم مما يحصل معي، وبأن الأمر خارج عن قدرتهم على مساعدتي، والحاجة الماسّة إلى طلب علاج، فضلا عن اتصال من صديق مقرب لي في منتصف الليل قال فيه جملة لا يمكن أن أنساها في حياتي "لا أريد أن أخسرك".
حينها شعرت بأنني شخص أناني، وبأن الأمور خرجت عن سيطرة الجميع، ولذا من الضروري أن أبدأ العلاج بأسرع وقت ممكن.
هناك الكثير من الأشخاص الذين يجدون صعوبة في فهم الأسباب الكامنة للاضطرابات الغذائية. ما الذي أسهم في غوصك في فقدان الشهية؟
على عكس ما يعتقد البعض بأنني أرغب في أن أكون نحيفة لتأثري بصور بعض المؤثرات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو لتعرضي للتنمر في فترة سابقة، فلم أكن يوما "ممتلئة"، بل الأمر بالنسبة لي، كان يتعلق بالتمتع بالطعام الذي كنت أعتبر أنني لا أستحقه كما لا أستحق الحب.
ربما قلة ثقة بالنفس أو بعض الصدمات العاطفية التي عانيت منها سابقا أثرت إلى حد كبير في هذا الموضوع، بحيث كانت، ولا تزال أحيانا، لدي الرغبة في أن أصل إلى مرحلة هوس في إظهار العظام في جسمي وصولا إلى الاختفاء كليا، فلا يعود لي وجود.
الأمر صعب على البعض استيعابه، خصوصا أنه يعتبر أن الأمر سطحي، وليس بمرض حقيقي، ويمكن السيطرة عليه، إلا أن الحقيقة أن مرض فقدان الشهية من أخطر أنواع الإدمان النفسي، فلا حدود له، والأخطر أن أي انتكاسة قد تشكل محفزا لاستيقاظه، فتكون ردة الفعل أشرس من المرة السابقة.
مرض فقدان الشهية ليس بمزحة، فبسببه كنت على وشك خسارة حياتي، وترميمها ليس بالأمر السهل، خصوصا أنني ما زلت أعاني منه، إلا أنني في معركة يومية بغية تحصين نفسي من أي انتكاسة وتوجيه طاقتي إلى الأمور الإيجابية.
ما الدور الذي لعبه العلاج أو الاستشارة في عملية تعافيك؟ وما النصيحة التي تقدمينها للآخرين الذين يبحثون عن العلاج؟
في البداية اعتقدت أن الموضوع قابل للعلاج بسهولة بمجرد زيارة الطبيب النفسي، لكن بعد تحويلي إلى طبيب اختصاصي في الأمراض النفسية، شعرت بمدى خطورة الأمر، خصوصا عندما اضطررت إلى اللجوء إلى نوع معين من الأدوية.
في البداية، الموضوع كان شاقّا ومتعبا لاضطراري إلى التعامل مع الأمر، وتقبله والتعايش معه ومع حياتي بعيدا عن تأثير هذا الأمر في حياتي المهنية والاجتماعية، إلا أن وجود حلقة دعم، مؤلفة من العائلة والأصدقاء كان أكثر من مهم وجوهري في هذه المرحلة، فأعترف بأنهم تحملوا الأمرّين مني خلال هذه الفترة التي فقدت فيها أعصابي واتزاني وصولا إلى الانهيار العصبي الكلي.
برأيك ما السبب الذي يمنع الكثير من الأشخاص من الكشف عن معاناتهم مع مرض فقدان الشهية؟
لعل السبب الرئيس في ذلك هو قلة التوعية، فالبعض لا يزال يعتبر الأمر مشكلة سطحية يعاني منها البعض، وهناك من يعتبر أن لديه القدرة على السيطرة على الموضوع.
ربما ذلك صحيح، إذ يمكن السيطرة على المرض لفترة، إلا أنه عند أول انتكاسة حقيقية وخطيرة ستفقد السيطرة كليا، وهنا ستدخل في متاهة نفسية وعقلية لن تتمكن من الخروج منها بسهولة من دون مساعدة اختصاصيين أو الخضوع للعلاج الصحيح والدقيق والمستمر.
فالمهم ليس أن تخضع للعلاج، بل الاستمرار فيه وتعلم الخطوات والتقنيات اللازمة للتعايش مع المرض والسيطرة عليه. الاعتراف بالمرض ليس بالأمر العيب، بل يتطلب شجاعة كبيرة وجرأة، وهو الخطوة الأساسية والأولى في الحصول على العلاج الذي ستخضع له ربما طوال حياتك، لكنك ستتعلم كيفية التعايش مع هذا المرض والحؤول دون تخريبه لحياتك.
نفذت جلسة تصويرية، ونشرتها على إنستغرام للكشف عن معاناتك. أخبرينا عن مدى تأثير هذه الخطوة في تخطي معاناتك مع المرض.
الفكرة في الأساس هي أنني رغبت في أن أسيطر على المرض من خلال الاعتراف به، فقد سئمت تعليقات البعض، ولو اعتبروها من باب الفكاهة، إلا أنها كانت قاسية جدا، ومنها "لا تملكين الطعام في منزلك؟"، أو "ما علاقتك بأولاد الدول النامية التي تعاني الفقر"؟ وغيرها من التعليقات المستفزة.
رغبت من خلال جلسة التصوير هذه في أن أعترف بأنني أعاني من مرض فقدان الشهية، وبأنني أنا أخضع للعلاج، وسأستمر في معركتي اليومية معه، لأن كل ما أرغب فيه هو أن أستيقظ يوما، وأنظر إلى المرآة وأقول لنفسي: "نعم أنا جميلة، نعم أنا قوية"، والأهم أن حلمي أن أستمتع بوجبة طعام لمرة واحدة في حياتي!
فوجئت كثيرا بمدى الحب الذي تلقيته والدعم من الأصدقاء والأشخاص الذين كانوا يجهلون معاناتي مع المرض، شعرت بأنني لست وحيدة في هذه المعركة، وبأنني يجب أن أكمل ما بدأت، لأن أمورا كثيرة جميلة بانتظاري.
ولعل مشاهدتي للصور دفعني إلى الشعور بألم داخلي حيال ما أوصلت نفسي إليه، إلا أنني مع نشر هذه الصور شعرت بحب إضافي لما أنا عليه، ولجرأتي في فعل ذلك.
كيف تغيرت نظرتك فيما يتعلق بصورة الجسم وتقدير النفس والذات نتيجة لتجربتك مع فقدان الشهية؟
مرض فقدان الشهية أوصلني إلى مرحلة بت أكره نشر صوري. منعت نفسي من مشاركة صور أكثر من رائعة في مناسبات عدة وأثناء سفري، لأنني شعرت بأنني "ممتلئة"، وكل مرة في مكان، سواء منطقة الأفخاذ أو اليدين أو البطن، "فالعظام" ليست ظاهرة بشكل واضح، وهذا ما أدخلني في دوامة عقلية مخيفة وصعبة أدت إلى إصابتي بالاكتئاب النفسي.
للمرة الأولى أعترف بأنني كنت أتجنب التسوق، بغية عدم رؤية نفسي والشعور بأنني ممتلئة، رغبت في الاختفاء وعدم الظهور، لأنني لست جميلة.
الاضطرابات الغذائية غالبا ما تكون مصحوبة بتوهمات وأفكار خاطئة. ما الذي تتمنين أن يفهمه الناس بشكل أفضل حول فقدان الشهية وأولئك الذين يعانون منه؟
أهم شيء أن مرض فقدان الشهية ليس بالمزحة أو بالأمر السطحي، ومن الخطر جدا الاستخفاف به، يجب فعلا إيلاؤه العناية اللازمة، وإحاطة من يعاني منه بالحب الشديد غير المشروط، والتقبل والأهم الاستيعاب ومنحه مسافة الأمان الكافية لمنعه من الكذب أو اختلاق الأعذار، بل على العكس الشعور بالأمان لمشاركة مع يعاني منه للحؤول دون وصوله إلى مرحلة تهدد صحته النفسية والجسدية على السواء.
هل يمكنك مشاركة بعض استراتيجيات التكيف أو الممارسات اليومية التي كان لها الأثر الكبير في الحفاظ على تعافيك ورفاهيتك؟
الرياضة أمر أساسي للغاية، فهي تساعد على الشعور بالطاقة الإيجابية والسيطرة على الأمور، فضلا عن ممارسة النشاطات الممتعة مع الأصدقاء وإحاطة الذات بالطاقة الإيجابية دائما.
كما من المهم تدوين كل الأفكار، الجيدة والسيئة، على دفتر خاص مخصص لهذه الأمور بغية تفريغ الطاقة السلبية واستبدالها بقراءة الكتب المحفزة والاستماع إلى الموسيقى التي تشكل فعلا علاجا قويا وفعالا للروح.
كما من الضروري تجنب وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا كل ما يتعلق ببعض المؤثرات اللواتي يسوقن لصورة المرأة بالطريقة الخاطئة، وعزل النفس عن كل الأشخاص ذوي الطاقة السلبية التي قد تشكل خطرا إضافيا على الصحة النفسية.
ما النصيحة التي تودين تقديمها لشخص يعاني حاليا من اضطراب غذائي؟
أحب نفسك، فأنت جميل كما أنت، ولا يوجد في هذه الحياة ما يستحق أن تشعر بالحزن من أجله، فمهما كانت شدة الألم الذي تعاني منه، تأكد من أن أمورا جميلة وإيجابية ستحصل في حياتك إن منحت نفسك الفرصة، فأنت أكثر من يستحق أن تختبر الحياة بجمالها، وسامح نفسك على الماضي، وامضِ قدما، فأنت قادر على تخطي هذا المرض، بوجود الأصدقاء المناسبين والعلاج المناسب.
لا تيأس، ستعيش أياما صعبة جدا، لن تتمكن فيها من الخروج من السرير، وهذا أكثر من طبيعي، كن لطيفا مع نفسك، وامنح لنفسك حرية الاختيار، والراحة لتستعيد طاقتك التي تحتاج إليها لخوض معركة التعافي، وتأكد من أنك ستنجح في النهاية.
أخيرا، كيف تنظرين إلى مستقبلك؟ وما رسالة الأمل التي تودّين إيصالها إلى الذين يسلكون طريقهم الخاص نحو التعافي؟
ببساطة ما زلت في بدايات مرحلة التعافي، إلا أنني اتخذت قرارا بأن لا أضيع أي يوم في حياتي مجددا، فأنا سيدة حياتي وقراراتي، وسأتمكن من الخروج من هذه المحنة، من أجلي ومن أجل كل من كان إلى جانبي، لأنني أريد أن أستيقظ يوما فخورة بنفسي، وأرغب في أن يكونوا فخورين بي أيضا.
ولا سقف لأحلامي، فمن يتخطى هذا الإدمان قادر على تخطي كل صعوبات الدنيا من دون أي استثناء، فهذا المرض هو تحدٍّ للألم النفسي والجسدي والقدرة على تعلم حب الذات مجددا بعيدا عن الإحساس بعقدة الذنب، فكلنا نستحق السعادة.