خاص "هي": رسم الذات وكشف الجوهر والتأمّل في الهوية والصمود.. فن "هيف كهرمان" دائم التطوّر
في عالم الفن المعاصر، حيث تتنوع القصص بقدر ما يختلف الفنانون أنفسهم، تتميز”هيف كهرمان" HAYV KAHRAMAN بكونها صوتا للصمود والهوية. ولدت "كهرمان" في العراق عام 1981، وقد صاغت قصتها عناصر كثيرة، أهمّها النزوح والهجرة والبحث عن بناء الروابط. تقيم اليوم في لوس أنجلوس، حيث تعمل على فنّها الذي يبقى شهادة على قوة التاريخ الشخصي والتجربة البشرية العامّة.
فرّت "كهرمان" من بغداد، وهي لم تبلغ بعدُ سن الحادية عشرة، ووجدت الملجأ لها ولعائلتها في السويد، حيث زُرعت أولى بذور تعبيرها الفنّي، وتغذّت من التأثير العميق لتجربة اللجوء. منطلقة من قصة حياتها الخاصة، تتخطى أعمال "كهرمان" حدود الوسائط والتقنيات، لتشمل الرسم وصنع الأشياء والأداء. وكل قطعة هي بمنزلة كانفاس تستكشف الفنانة من خلاله موضوعات مثل الهجرة، والنضال الدائم ضد العنف الذي تتعرض له النساء. في قلب فنّها، التزام عميق بتحدّي حدود الحياة في الغربة؛ ومن خلال أعمالها، تناقش الوقائع الاجتماعية والسياسية التي تشكّل تجارب المهاجرين العالقين بين الثقافات الغربية والشرق أوسطية، أي في مساحة من غموض الانتقال والتفاوض، حيث تتكوّن الهويات وتتعارض في آن معا. وسط الانقسام والنزاع، يظهر فن "كهرمان" منارة للأمل والشفاء. بمفرداتها البصرية الفريدة، تدعونا لنشهد على تعقيدات تجربة المهاجر والقوة الثابتة للروح البشرية. وهي بذلك تذكّرنا بقدرة الفن على اجتياز الحدود وبناء الجسور بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة والاحتمال. حاليا، تعرض "هيف" عملها التركيبي بعنوان "الغريبة في الولايات المتحدة" THE FOREIGN IN US في مركز "مودي" للفنون ضمن جامعة "رايس" في مدينة هيوستن، وتقدّم معرض "انظر في عينيّ" LOOK ME IN THE EYES في "معهد الفنون المعاصرة" في سان فرانسيسكو. وقد تحدّثتُ إليها عن رؤيتها ومقاربتها الفنية.
ما الذي يؤثّر في عملك ويلهمه؟
يسير تنقّلي بين العمل الفنّي والآخر بسلاسة، ويكون إلى حد ما مصادفة، لكن الأهم أنه مبنيّ على أبحاث. أحاول أن أبقى دائما على صلة بما أنتجه، بمعنى أن ينطوي العمل على إحساس أو عنصر شخصي يكون شيئا أشعر بالحاجة إلى استكشافه وتحدّيه ولقائه على مستوى أعمق.
في جوهر عملك، نلاحظ اهتماما بالهندسة والتناظر، وهما عنصران تدمجينهما بكل سلاسة في أعمالك. كيف تنجحين في ذلك؟
الهندسة التي قد تقصدينها هي الأشكال الفسيفسائية النمطية التي أُدخلها إلى أعمالي. تكون عادة خيارا جماليا، وتُشعرني بأن العمل قد اكتمل بطريقة ما، بعد إضافة هذه الزخرفة النمطية. إن الكثير من الأشكال المتكررة هي في الواقع مأخوذة من رموز تنسجها نساء كردستان في السجاد. ولكل منها معنى، من الخصوبة إلى الحياة والأنوثة وغيرها.
كيف بدأ مشوارك مع الفن؟
لطالما رسمتُ. حين كنت طفلة صغيرة، كانت لدينا أنا وشقيقتي غرفة لعب سمح لنا والدانا بتحويل جدرانها الأربعة إلى كانفاس. فملأنا الغرفة بالقصص والنُكَت، وأعتقد أن تلك التجربة غرست فينا عدم الخوف أو التردد في فعل ما نريده.
أنا إيطالية، وأعرف أنك تملكين حبا كبيرا لإيطاليا أيضا. ما السبب؟
أمضيت أربع سنوات في إيطاليا خلال العقد الأول من القرن الحالي، وكنت غارقة في كبسولة زمنية لخّصت النهضة الفلورنسية. زرتُ المتاحف، ودرستُ لوحات كبار الرسامين ونسختُها في بعض الأحيان، وتعمّقتُ في تقنيات مثل مزج الألوان أو "سفوماتو"، ووضعية التعارض أو "كونترابوستو"، والجلاء والقتمة أو "كياروسكورو". كانت فترة محورية في صياغة فنّي، لكنها شكّلت معضلة صعبة بالنسبة إلي، فمع هذا الغرام بالفن الأوروبي، حدث محو لثقافات أخرى، وطرق مختلفة في التفكير وصنع الفن. يهمّني أن يعرف المشاهد أنني أدرج جماليات عصر النهضة في عملي بالدرجة الأولى، ليكون شكلا من أشكال الخداع؛ لأن أعيننا تدرّبت على اعتبار هذا الشكل الفنّي جميلا، وهكذا أجذب انتباه المشاهد، على أمل أن تُكشَف له وقائع استعمارية أخرى.
متى وكيف بدأت التعمّق في مفهومَي التنوع والشمولية في فنّك؟
لقد عشت حياة المترحّل. هربتُ من العراق وأنا في سن العاشرة، ووصلت إلى السويد، حيث أصبحت طالبة لجوء دون وثائق، قبل أن أحصل أخيرا على الأوراق القانونية، وأصبح مواطنة سويدية. عشتُ في شمال السويد، حيث كنت مختلفة بشكل واضح عن الجميع. على سبيل المثال، كنت في صفّي المدرسي الطفل الوحيد بشعر أسود اللون. والطريقة الوحيدة التي عرفتُ الصمود من خلالها في ذلك الوقت كانت الاندماج، حتى أصبح واحدة منهم. هكذا، قمت بتفتيح شعري، وإتقان اللهجة السويدية إلى درجة أن من يتحدّث إليّ عبر الهاتف يعتقد أنه يتحدث إلى سويدي أصلي؛ وكل ذلك بهدف نسيان نفسي، والتخلّص من هذا الاختلاف. لكنك بهذه الطريقة تخسرين نفسك. لهذا السبب، تظهر هذه الشخصية وتعاود الظهور في عملي، فيما أحاول تشكيل تأثيرها وبناء قدرتها على تحديد مصيرها. والأهم أن هذا النوع من التكرار يمهّد الطريق أمام الإصلاح والشفاء.
وبعد ذلك؟
بدأتُ أقرأ أكثر وأكثر، وكنت أقرأ تحديدا الكثير من النصوص الأكاديمية المتعلّقة بإنهاء الاستعمار وما بعد الاستعمارية.
ماذا عن المرأة التي ترسمينها في أعمالك الفنّية؟ وما علاقتها بكل ذلك؟
إن صورة المرأة التي أرسمها هي في الواقع انعكاس لأجسام مندمجة، وهي أجسام تعلّمت أن تفكر وتعتقد أن تاريخ الفن الأوروبي الأبيض هو المثال الأعلى وأساس الجمال. وُلدت هذه الصورة من هذه الفكرة، ومن مكان استعماري محا التاريخ الآخر. مع الوقت، تغيّرت وتحوّلت، وصارت هذه الشخصية بالنسبة إلي رمزا أو بالأحرى منهجية للتساؤل والتفاوض والتضمين والتعلم والنسيان والإصلاح.
يبقى نوع الجنس والهوية موضوعين ثابتين في أعمالك، لكن فنّك في حالة تطور مستمر.
يشكّل عملي، إلى جانب أشياء أخرى، منصة لاسترداد قدرات من يعيشون على الهامش لاتخاذ قراراتهم بإرادتهم المستقلة. ويدعمهم حس غضب، وصمود، ورشّة أمل.