فيلم "ڤوي! ڤوي! ڤوي!" … كوميديا احتيال جذابة عن أحلام المُهمشين المُجهضة!
شهد عام 2023 انتكاسة في مستوى الأفلام المصرية المعروضة؛ بعضها كان مقبولًا عمومًا، والبعض الأخر كان شديد التواضع والرداءة. الرابط المشترك بين غالبية المعروض هو فقر الرؤية السينمائية، وغِياب الإبداع، وبدا الأمر أحيانًا كما لو كان صُناع السينما يصنعون الأفلام أداء واجب وظيفي روتيني ممل، دون شغف أو حماس. الأفلام الكوميدية التي كانت دائمًا تلقى صدى جماهيري لم تعد تُضحك، وفقد نجومها لمستهم السحرية، وأعادوا تدوير نفس النكات القديمة التي كانت تُضحك الملايين قبل سنوات، لكن أصوات الضحكات كانت تضعف وتفتر في ظل تغير الزمان ولغته، ووسط حالة العك ظهر بعض الشباب يُحاول تقديم أفكارًا مُختلفة.
سينما لا تُخاصم الجمهور!
قدمت السينما المصرية في منتصف أغسطس الماضي فيلم "وش في وش"، وهو دراما كوميدية من قصة وإخراج "وليد الحلفاوي"، وتناول الخلافات الزوجية وتداعيات تدخل الأهل والأصدقاء، ولفت النظر في الفيلم الرؤية السينمائية المُختلفة عن السائد؛ فقد كسر الفيلم نمطية النجم الواحد، والافيهات المُستهلكة، وكانت الفكرة هي مصدر المواقف الكوميدية الساخرة الرئيسي.
يأتي فيلم "ڤوي! ڤوي! ڤوي!" ليضع إضافة أخرى جيدة في طريق سينمائي غير مُمهد، والفيلم قصة وإخراج "عمر هلال"، وهو أول أعماله الدرامية الطويلة بعد سنوات من العمل مُخرجًا للإعلانات، وإنتاج (فيلم كلينك)، و(فوكس استوديوز)، و(إيمجينشن أبوظبي)، وبطولة جماعية لعدد من النجوم الكبار والشباب، على رأسهم "محمد فراج" و"نيللي كريم"، والفيلم ترشح رسميًا لتمثيل مصر في مسابقة اختيار أفضل فيلم أجنبي بمسابقة الأوسكار القادمة.
توقعاتي عن فيلم "ڤوي! ڤوي! ڤوي!" قبل مُشاهدته كانت مختلفة عن حقيقته؛ وكنت أظنه أحد هذه الأفلام الميلودرامية الموجهة لمُشاهد خاص ومحدود؛ فمن الصعب أن يتقبل جمهور السينما التقليدي مُتابعة حكاية مأساوية عن مُعاناة أفراد فريق كرة قدم للعميان؛ ولكن الفيلم استطاع الإمساك بفكرة جادة وواقعية، واستخدم لغة درامية ساخرة للتعبير عنها، وقدم فيلم يحمل فكرة من صميم الواقع، واستخدم لغة السينما في صناعة عمل لطيف وجذاب، لا يُخاصم جمهور السينما التجارية.
حكايات الاحتيال!
كلمة "Voy!" إسبانية وأصبحت اصطلاح يستخدمه لاعب كرة القدم الضرير وهو يتحرك بالكرة حتى لا يصطدم به زملاءه، ليعرف زملاءه موقعه، ولعبة كرة القدم للمكفوفين جزء من حبكة الفيلم، وهو لا يتعامل مع حبكة أزمة شخصيات فقدت نعمة البصر، ويتجاوز الأمر إلى حكاية شخصيات مُهمشة لا تري أملًا في واقع يتجاهلها، ويغفل عن آلامها مُجتمع صاخب مشغول بمشكلاته.
قصة الفيلم عن شاب فقير ومُحبط هو حسن "محمد فراج"، وهو يعمل حارس أمن، ويحلم بالهجرة إلى أوروبا، ويفكر فعلًا في الهجرة غير الشرعية، ولكنه يتراجع؛ فالسفر مُكلف للغاية، والرحلة مُغامرة شديدة الخطورة، وتلمع في رأسه فكرة الانضمام إلى فريق كرة قدم للمكفوفين، والفريق مُرشح للوصولة إلى بطولة كأس العالم في بولندا.
الاحتيال هو الفكرة التي تُحرك الدراما في الفيلم؛ فالبطل يُخطط للاحتيال على إدارة الفريق، وإقناعهم أنه كفيف، وهو ينجح في ذلك، أو يظن أنه نجح، ولكنه يكتشف أنه دخل دوامة مُعقدة من التفاصيل والتحديات، تدفعه إلى ما أكثر من جريمة الاحتيال.
ثغرة قصة الحب!
الهروب من الأوضاع الاقتصادية الصعبة إلى جنة الغرب هو الحلم الأكبر لكثير من الشباب الذي يُعاني في وطنه، وحسن أحد هؤلاء، ولكن الفيلم لا يُقدمه نموذجًا نمطيًا نتعاطف معه طوال الوقت؛ فهو على حد وصف راوي الفيلم "بيومي فؤاد" شخص عبقري وقذر في نفس الوقت، ونرى في عدة مواقف كيف يُمكن أن تدفعه رغبته المُستميتة من أجل السفر إلى حافة الجريمة.
عالم حسن محدود للغاية داخل المنطقة الشعبية التي يعيش فيها مع والدته "حنان يوسف"، وهو على عِلاقة حب يائسة بجارته "بسنت شوقي"، وأصدقائه هما عامل توصيل الطلبات "طه دسوقي"، وأخر يعمل في محل أجهزة إلكترونية "أمجد الحجار"، وكلاهما يعيش نفس أزمة البحث عن فرص عمل حقيقية دون جدوى.
هناك مشكلة غامضة بين السيناريو والخطوط الدرامية النسائية؛ أبرزها قصة الحب بين حسن والصحفية "نيللي كريم"، وهو خط درامي مُقحم على الأحداث وغير مُثمر دراميًا، ونفس الأمر ينطبق على قصة حب حسن وجارته "بسنت شوقي"، وهي قصة هامشية بلا ملامح، في حالة شخصية "طه الدسوقي" قدم السيناريو نموذج فج لحبيبته التي دفعها الفقر للانحراف الأخلاقي، وهذا الخط الدرامي مبتور وفقير في تفاصيله وقد يكون هذا مُتعمدًا لتحقيق صدمة ما، ونفس المُعالجة قدمها الفيلم عن مصير مغامرة أبطال العمل في نهاية الفيلم.
توظيف الممثلين!
البطولة الجماعية منحت الموضوع والمعالجة السينما فرصة تقديم كوميديا سوداء جذابة، وشريط سينمائي ينتمي لفن الكوميديا، وليس مجموعة اسكتشات يُقدمها - مُنفردًا - نجم كوميدي مشهور، ولم يلجأ المخرج "عمر هلال" وهو كاتب السيناريو إلى الحلول السهلة؛ فلديه مجموعة ممثلين يمكنهم إطلاق النكات طوال الفيلم دون توقف، ولكنه دفع بالفكرة إلى المقدمة، ووظف المُمثلين لتدعيم شخصيات العمل.
قدم "محمد فراج" في دور يُلائم موهبته وأُسلوب أداءه، ونجحت شخصية حسن الذي يتوهج ذكاءه في التحايل والتلاعب، ولكنه أخفق في توظيف ذلك للحصول على مهنة جيدة، ويُقدم "بيومي فؤاد" - بعيدًا عن التهريج المُعتاد - ثاني أفضل أداء له هذا العام بعد شخصية الأبُّ المُتهكم في فيلم "وش في وش"، وهو يُجسد في "ڤوي! ڤوي! ڤوي!" شخصية مدرب الكرة العاطل الذي يبتلع التعليقات الجارحة لزوجته العاملة "لبنى ونس"؛ ومنحه السيناريو لمسة إنسانية في علاقته بابنه، وهو شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة؛ ولهذا يبدو مُتفهمًا لأهمية تحقيق الفريق بطولة العالم للمكفوفين.
يستخدم "طه دسوقي" الحد الأدني من الافيهات اللفظية، ويميل للسخرية المريرة من واقعه دون مُبالغة، ومساحات الضحك الذي يُقدمه الفيلم في مكانها الصحيح، وشخصيات "حجاج عبد العظيم" و"محمد عبد العظيم" تثير الضحك من داخل الأداء الجاد المُلتزم بإطار الشخصية، وهو الشيء نفسه الذي تفعله الأم "حنان يوسف"؛ فالفيلم لا يهدف للإضحاك في المطلق، ولكنه يسرد الحكاية بتفاصيل ومُعالجة تضع الضحك في أوقات غير مُلائمة، وينطبق عليها المثل القائل "شر البلية ما يُضحك".
وجود "نيللي كريم" كان لأهداف تُجارية جلية؛ فلم يكن دورها مؤثر في الأحداث ولم يكن دور شرفي، وكان يحتاج إلى اجتهاد في الكتابة ليصل إلى نتيجة أفضل مما ظهر على الشاشة.
مونتاج "أحمد حافظ" من عناصر نجاح المود الكوميدي وحيوية مشاهد الفيلم، وموسيقى "ساري هاني" التصويرية كانت مُعبرة عن حالة الترقب والقلق؛ فأحداث الفيلم تبدأ عادية وربما مُتوقعة، ثم تتصاعد مع تويستات متتالية، ولكن الموسيقى كانت صاخبة وذات إيقاعات وألحان غريبة عن أجواء الفيلم في بعض الأحيان.
نهاية المغامرة!
النهاية الكابوسية لأحلام السفر إلى الخارج جزء من مود الفيلم الساخر؛ فالسيناريو يُقدم حكاية مليئة بالأمل، وتحفل بالاحتيال والتلاعب، ثم يُلقي بدلو مياه باردة على رأس الجميع في النهاية، وهو يتجاوز تفاصيل وصول كل شخصية إلى مصيرها الصادم، ويكتفي بالراوي يواجه الكاميرا ويسرد ما حدث لكل منهم في لقطات سريعة، وهو مود الثلث الأخير الذي كان إيقاعه شديد السرعة، على عكس الثُلث الأول، ويُمكن أن نقول أن الثُلث الأوسط كان الأكثر إبداعًا؛ وذلك لأن عناصر الصراع الدرامي بين الشخصيات والتقلبات الدرامية كانت أكثر تماسكًا وجاذبية.
يُعلن الفيلم دون مواربة أن حلم السفر للغرب أكذوبة كبيرة؛ فهو ليس جنة كما يظن كثير من الشباب الذي يحلم بالهروب من واقعه وظروفه الاقتصادية الصعبة. "ڤوي! ڤوي! ڤوي!" فكرة لامعة ومعالجة جذابة على الرغْم من الواقع القاتم الذي جعل الجميع يتصرفون كأنهم عميان .
الصور من تريلر الفيلم وحساب شركة فيلم كلينك