فيلم "Napoleon" حروب نابليون وقلب جوزفين.. ملحمة كبيرة وسيناريو صغير!
في نهاية الستينيات بدأ المخرج الراحل "ستانلي كوبريك" مشروع ضخم عن سيرة "نابليون بونابرت"، كتب السيناريو واختار "جاك نيكلسون" في دور "نابليون بونابرت"، و"أودري هيبورن" في دور الإمبراطورة "جوزفين"، ولم يتم تنفيذ الفيلم بسبب مخاوف من فشل الفيلم في شباك التذاكر؛ مثلما حدث مع فيلم أخر عُرض عن "نابليون" عام 1970، هو فيلم "واترلو" "Waterloo" للمخرج "سيرجي بوندارتشاك". نفس هذا السيناريو قيد الإعداد منذ عشر سنوات، من قبل "ستيفن سبيلبرج" على هيئة مسلسل قصير لمصلحة شبكة "HBO". قرأ "ريدلي سكوت" سيناريو كوبريك قبل تنفيذ فيلمه "نابليون" "Napoleon" ولم يعجبه، وشاهد عدد أخر من الأفلام الكلاسيكية التي جسدت شخصية نابليون ولم يعجبه أي منها.
العبقرية والجنون!
وقف القائد العسكري "نابليون بونابرت" (واكين فينيكس) وَسْط ساحة المعارك الصاخبة، جامدًا كالتمثال، على وجهه تعبير صارم، لا يهتز أو يتأثر بصيحات الجرحى، لا تصدمه برك دماء القتلى، ولا يتأثر بعشرات الجثث التي تتناثر على الأرض، تدور في رأسه الخطط والمعارك التالية، لا يهمه سقوط مزيد من القتلى؛ هم مجرد درجات في سلم سعيه المجنون للمجد.
هذه الصورة المتوقعة عن هذا القائد العسكري في نسخة المخرج "ريدلي سكوت" من انتاج شبكة "آبل"، هذه الصورة الملحمية خلفية مُتقنة وصلبة لمساحات درامية أكثر هشاشة، تصور "نابليون" من زوايا نفسية أخرى؛ فخلف صرامته يبدو شخص مُعتل اجتماعيًا، يُعوض ضعف شخصيته بسلوكيات قاسية دموية، والخط الدرامي الأكثر حضورًا على الشاشة هو تلك العَلاقة السامة بين "نابليون" وزوجته اللعوب "جوزفين" (فينيسا كيربي).
أظن أن "رايدلي سكوت" كان يفكر في مُمثله المُفضل "واكين فينيكس"، وهو يبحث عمن يؤدي نسخته الخاصة من "نابليون"، مرت بخياله لقطات لـ"فينيكس" مؤدي شخصية "الجوكر"، الشخص المُعتل اجتماعيًا في فيلم ""Joker، الذي يتصرف بطيش وبهلوانية أحيانًا، وثيودور، بطل فيلم "هي" "Her"، المنطوي غريب الأطوار، الذي دخل في عَلاقة رومانسية سامة بشخصية رقمية، مصنوعة بالذكاء الصناعي.
هذا ما يريده تمامًا لرسم بورتريه "نابليون"؛ شخص لا يمتلك اللباقة الاجتماعية، ودموي وقت المواجهات العسكرية، ينتصر على الأرض ولا يعبأ بموت ملايين من البشر، وعلى الجانب الأخر هو رومانسي هش المشاعر، ويخضع لسحر وفتنة امرأة لم تحبه بشكل خاص، وخسر كل معاركه أمامها. "واكين فينيكس" كان رائعًا كالعادة، ولكن دون خصوصية.
أزمات السيناريو!
لم تكن خُطَّة "ريدلي سكوت" مُعقدة؛ سيُقدم ملحمة عن شخص بارع في الحرب، وأحمق في الحب؛ يعرف كيف يستولي على القلاع، ويحتل البلدان، ويُخفق في احتلال قلب "جوزفين"، المرأة التي فتنته وسيطرت عليه.
رؤية الفيلم جيدة عمومًا، لكن سيناريو "ديفيد سكاربا" المُفكك لم يمنح عَلاقة "نابليون وجوزفين" الحيوية الكافية؛ فبدت قصة الحب مثل أي قصة حب مُضطربة، من نوعية الأفلام المُبتذلة المتوسطة المستوى، التي تٌقدمها المنصات الرقمية للجمهور المحب لقصص الحب السامة. هذا لا يعني أن فيلم "رايدلي سكوت" خسر معركة نابليون تمامًا؛ فقد ربح ساحة تنفيذ مشاهد المعارك الحربية الملحمية، وتألق "واكين فينيكس" في تصويره شخصية قائد عسكري استثنائي.
من مشاكل السيناريو حشد كم كبير من تفاصيل حياة "نابليون" في وقت زمني قصير؛ وهذا جعل التعاطف مع شخصية البطل باهتا؛ فلا توجد لحظات خاصة تحظى بوقت كافِ للتأثير على المشاهد. الفيلم يبدأ من وقائع الثورة الفرنسية، مرورًا بصعود "نابليون" سلم السلطة العسكرية والسياسية، وحروبه ومعاركه في كثير من بقاع الأرض، وقد يبدو هذا مثيرًا على الشاشة لكنها إثارة عابرة؛ لأن السيناريو يفتقد التركيز على مناطق درامية بعينها، ويتناقض مع رؤية الفيلم التي تُركز على الأبعاد النفسية لشخصية "نابليون" المُعقدة، يُهرول السيناريو خلف الأحداث المتلاحقة؛ فيشعر المُشاهد ببعض الفتور، ويفقد شغف المتابعة حتى تأتي معركة ما فيبدأ في الاهتمام.
فتنة جوزفين!
عَلاقة "نابليون" و"جوزفين" هي الجزء الملون الإنساني من بورتريه "نابليون" السياسي والعسكري، ولكن هذا لم يحدث على الشاشة؛ بدت شخصيتها من البداية قوية ومؤثرة وفاتنة، ولكن مع مرور الأحداث تتحول إلى تمثال شمعي فارغ من المضمون والحرارة الإنسانية. يتحمل "نابليون" خيانة زوجته ويُسامحها فيفقد المزيد من هيبته؛ هل هذا جعله أكثر دموية وشغفًا بالدخول في حروب استعمارية مع دول الشرق الفقير؟ لا توجد إجابة درامية على هذا السؤال؛ لأنه الرابط بين حياة نابليون الخاصة وحياته العسكرية والسياسية مفقود.
قدم "ريدلي سكوت" قراءة ذكية للتاريخ، في أعماله التاريخية الملحمية السابقة مثل "المصارع" "Gladiator"، ومملكة الجنة" "Kingdom of Heaven"، و"روبن هود" "Robin Hood"، و"الخروج: آلهة وملوك" "Exodus: Gods and Kings"، وحاول الاقتراب من الملامح الإنسانية للشخصيات للبحث عن دوافع سلوكياتها وردود أفعالها؛ التاريخ يصنعه البشر؛ وهذا يجعل الاقتراب من شخصياتهم الطريقة المثالية لفهم وقائع وأحداث التاريخ.
شخصية "جوزفين" تنل مساحة كافية في السيناريو، ولكنها لا تُقدم صورة أصيلة عن طبيعة علاقتها المرتبكة بزوجها، وتأثير ذلك عليه وعلى مسيرته المهنية، افتقر الفيلم المشاهد الكافية لتعميق عَلاقة الزوجين، وهذا أثر على أداء "فينيسا كيربي" المتوسط وتعبيراتها الجوفاء.
قصف الوقائع التاريخية!
سيتعرض البعض للحقائق التاريخية ومشاهد الفيلم، ولكن هذه منطقة مليئة بألغام وألغاز التاريخ؛ فلا يوجد شيء مؤكد تمامًا في الروايات التاريخية، وقد يختار الكاتب والمخرج بعض الروايات التي تدعم رؤيته الدرامية، وهي رواية غير شائعة تثير الجدل.
هل فارق السن بين "جوزفين" التي تكبر "نابليون" بست سنوات تحقق على الشاشة؟ هل ضربت قوات "نابليون" الهرم الأكبر وأبو الهول بالمدافع؟ عديد من المؤرخين نفوا تلك الرواية، ولكن تلك اللقطة تظهر في الفيلم جزء من رد فعل "نابليون" العنيف ضد مقاومة قوات المماليك الذين لم يعتادوا القتال بالمدافع، ويُلخص رؤيته لمعركة غزو مصر؛ لقد فاز بسهولة؛ لأنه يمتلك القوة العسكرية الأقوى.
لم يختلف رد فعل "نابليون" العنيف حتي ضد الفرنسيين، الذين خرجوا للاحتجاج على نظام الحكم الجمهوري الجديد، لقد قصف مظاهراتهم وَسْط الشوارع ببساطة بالمدافع، ليس لديه الصبر أو أدوات التفاوض والسياسة.
من الصعب التزام سيناريو أي دراما بتفاصيل تاريخية مُختلف عليها، وهنا يأتي دور المخرج لانتقاء الوقائع بما يُلائم رؤيته الكاملة عن الحدث وصورة الشخصيات، وقد فعل "ريدلي سكوت" هذا الأمر بشكل جيد في أغلب الأحيان، وقد اعتاد الجدل حول أفلامه، ولكن ردود أفعاله جاءت "نابوليونية" بعض الشيء.
الصور من الحساب الرسمي للفيلم على منصة X "تويتر"