من روسكو آرباكل حتى شون ديدي.. صناعة النجوم اللامعة والوحوش الجامحة في هوليوود!
نهار خارجي: تسطع أضواء الاستديو المبهرة على وجوه المشاهير، كما تسطع الشمس على القمر؛ تغمر أضواء الكشافات الضخمة وجوه الممثلين وتُحيل أجسادهم الرشيقة ذات معايير الجمال القياسية إلى نجوم لامعة وكائنات أثيرية خيالية، وفي السماء تمنح الشمس الجسم المُعتم للقمر البهاء وتُحيله قمرًا مُنيرًا يغزل به الشعراء والمحبون وتُنسج حوله الأساطير. لو نطق القمر لأعلن بغرور أنه أجمل عناصر لوحة الطبيعة؛ فهو الجرم الأكثر ضياء بعد الشمس، ولو كان له جسدٌ وعيونٌ ووعيٌ ونفوذٌ ربما سقط في فخ الفساد وتلاعب بشعرائه وعُشاقه، وحطم القيود والحدود دون وازع أو حسيب؛ فمن يجرؤ أن يحاسب القمر؟ ربما ظن بعض نجوم البشر أمثال مُغني الهيب هوب "ديدي" والمُنتج "هارفي واينستين" والممثل "بيل كوسبي" وقبلهم عبقري السينما الصامتة "روسكو آرباكل" أنهم مثل القمر؛ كائنات مُضيئة، مُبهرة ومحبوبة، لديها النفوذ والقوة للتجاوز وفعل أي شيء؛ من يجرؤ أن يُحاسب نجوم الفن؟
الحفلات البيضاء!
عدد الدعاوى التي قُيدت ضد مُغني الهيب هوب "شون كومبس" الشهير بـ"ديدي" كثيرة، والاتهامات عديدة ومُروعة؛ تبدأ من التحرش والاعتداء الجنسي على قُصَّر وبالغين من الجنسين، وتصل إلى القتل والاتجار بالبشر، من بين تُهم أخرى تتعلق بالابتزاز والرشوة. جرائم بغيضة تبدو من هولها تُهمًا كيدية، أو مُحاولات ابتزاز لنجم ثري ومشهور، وهذا ما يدعيه محامو "ديدي" حاليًا. وقد انتهت بعض الدعاوى السابقة بتسويات مالية مع المدعين ورشاوى للشهود، وبعضها وصل المحكمة وحصل "ديدي" على البراءة لعدم كفاية أدلة الإدانة.
عُرفت حفلات اللهو التي أقامها "ديدي" طوال سنوات بـ"الحفلات البيضاء"، حيث يُشترط حضورها بملابس بيضاء، وضمت من بين الحضور العديد من نجوم الفن والمشاهير. وحسب إفادات بعض الحضور، شهدت الحفلات الكثير من وقائع الانفلات الأخلاقي والاعتداء الفردي والجماعي على بالغين وقُصَّر. وقد حضر هذه الحفلات نجوم قد تتم ملاحقتهم في المستقبل؛ بسبب المُشاركة في وقائع مُشينة بالحفلات، أو بالصمت المُخزي عن تلك الوقائع. ينتظر "ديدي" حاليًا مُحاكمته بعد القبض عليه في 16 سبتمبر الماضي واحتجازه في مركز احتجاز متروبوليتان في منطقة بروكلين، في نيويورك. قائمة الاتهامات ضده طويلة، وتضم أسماء قد تصدم البعض إذا تم الإعلان عنها.
هذا الجانب المُظلم من شخصية "ديدي" لا يراه جمهوره من المُعجبين بفنه؛ إذ حصل "ديدي" على العديد من الجوائز والإشادات النقدية بأعماله الموسيقية. اعتبره كثير من النقاد واحدًا من أهم المُبدعين والمُطورين لفن الهيب هوب والآر أند بي في الألفية الثالثة، وحصل على نجمة في ممشى المشاهير في هوليوود. وبالإضافة إلى النجومية والتقدير النقدي على عطاءه الفني، يمتلك ثروة تُقدر بحوالي مليار دولار، جمعها من الفن وعمله في عدة مجالات؛ فهو يمتلك خط أزياء شهيرًا وآخر للعطور وعدة مطاعم، ومعروف عنه السخاء في منح تبرعات بالملايين لجهات خيرية ومدارس وجامعات.
الجانب المُظلم من القمر!
قبل أكثر من قرن من الزمان، وتحديدًا في يوم 17 سبتمبر عام 1921، قبضت الشرطة الأمريكية على نجم هوليوود الكبير وقتها، "روسكو آرباكل" وشهرته "فاتي" (البدين)؛ بتهمة الاعتداء الجنسي والقتل. كانت الضحية ممثلة مغمورة حضرت حفلًا صاخبًا من حفلات "آرباكل"، تُدعى "فرجينيا راب". تحولت قضية "آرباكل" إلى فضيحة نالت من سمعته وأثرت على نظرة الجمهور إلى هوليوود، قلعة صناعة الفن الناشئة، وتسببت في فتح ملفات فساد هوليوود، وإضافة قوانين الرقابة الصارمة على الأفلام، خاصة فيما يتعلق بنوعية موضوعات الأفلام وما يُسمح بتصويره على الشاشة.
كانت هذه الحقبة من تاريخ هوليوود موضوع فيلم Babylon "بابيلون"، من إخراج "داميان شازيل" عام 2022، وشارك في بطولته "براد بت" و"مارجو روبي". وفي المشهد الافتتاحي الطويل، استعان "شازيل" بحادثة حفل صاخب انتهى بمقتل ممثلة ناشئة، مُستلهمًا قضية "روسكو آرباكل" كمدخل لوصف ملامح بدايات الصناعة والفساد الأخلاقي الذي صاحب بدايات السينما. عكس الفيلم صورة مُعقدة عن الضغوط النفسية التي يتعرض لها النجوم، ورسم بجرأة صورة لما يحدث في الأماكن المُغلقة من حفلات صاخبة وممارسات أخلاقية مشبوهة.
تحرر "شازيل" من الالتزام الحرفي بالتاريخ، وقدم حكايات لم يتم إثبات بعضها، وجسد "بت" و"روبي" وشخصيات أخرى نماذج تشبه إلى حد كبير بعض نجوم السينما وقتها، وأزمات تعارض طموحهم الفني مع فساد أصحاب النفوذ وقتها. لقد رسم "شازيل" سابقًا من خلال فيلمه La La Land "لا لا لاند" صورة رومانسية عاشقة للسينما، بينما جاء فيلم "بابيلون" ليرسم صورة قبيحة وصادمة لحقبة مرت بها هوليوود.
معايير الاستديوهات القاسية!
قضية "روسكو آرباكل" وفضائحه تشبه كثيرًا قضية "ديدي" وقضايا أخرى تتعلق بجوانب الاستغلال المتبادل بين النجوم وصناع السينما، والرغبة في تجاوز الحدود الأخلاقية والجموح. إذا وضعناها بجوار قضايا "هارفي واينستين" و"بيل كوسبي" و"آبشتاين"، سنجد الكثير من أوجه التشابه؛ فهو مثلًا كان من مشاهير عصره المؤثرين في الصناعة، وواحدًا من أهم عمالقة الكوميديا في عصره، وكان ملهمًا لكثير من نجوم السينما وقتها. كان مؤلفًا ومُنتجًا ومُخرجًا وصاحب صوت غنائي جميل، وقد شاركه "شارلي شابلن" التمثيل في بداياته. وكان "آرباكل" مُكتشف الممثل "باستر كيتون"، وصنع منه أسطورة في عالم الكوميديا، وظل "كيتون" مُمتنًا لمثله الأعلى حتى أنه منحه حصة في شركته؛ لمساعدته في الوقوف على قدميه بعد أن دمرت قضايا الفساد الأخلاقي سمعة "آرباكل" ومُنعت أفلامه من العرض. ورغم تبرئته من التهم لعدم ثبوتها، إلا أن سمعته تضررت بسبب تناول الصحافة المُكثف لوقائع حياته، وأغلقت شركات الإنتاج أبوابها في وجهه، ودخل في حالة اكتئاب شديد.
هوليوود تصنع النجوم ولا تتورع عن إقصائهم بقسوة حتى لا تُغضب جمهورها. وهي صناعة كُبرى تصنع من الفنانين نماذج ذات مواصفات خاصة، وتُحافظ بصرامة على ثبات هذه الصورة وتعزيزها، وتطرد من يرفض قيودها من الواجهة وتسحب بساط الشهرة والمكانة من تحت قدميه.
صناعة لا تتعظ!
بعض النجوم، أمثال "كيفين سبيسي"، طالته اتهامات بالتحرش، و"جوني ديب" اتهمته طليقته "آمبر هيرد" بالعنف المنزلي، والثنائي "براد بت" و"أنجلينا جولي" تبادلا الاتهامات بالعنف المنزلي. لكن قضية "ديدي" أعادت للأضواء جموح فساد العشرينيات، هذا الفساد الوحشي الضخم الذي يشبه فساد عصابات المافيا الكبيرة، وكأن هوليوود تُكرر تاريخها ولا تتعظ.
في عام 2017، شكّلت فضيحة تحرش المنتج "هارفي واينستين" ببعض الممثلات وابتزازهن انطلاقة لحركة #MeToo، حيث خرجت عشرات النساء للتحدث عن تعرضهن للتحرش من نجوم ومنتجين في هوليوود، ولأول مرة تم كسر الصمت عن الجوانب المُظلمة للحياة داخل هوليوود، كما أثرت الحركة على سياسات هوليوود، وكانت سببًا في تعزيز دور منسقي المشاهد الحميمية؛ لمنع التحرش أثناء التصوير. سقط "واينستين" أخيرًا بعدما حكمت المحكمة عليه بالسجن مدة 23 عامًا، وصار اسمه مُقترنًا بالعار في أوساط هوليوود. وقد أصبح ضحاياه أبطالًا في نظر الجمهور، وزادت جرأة كثير من النجمات والمشاهير في فضح النجوم والمُنتجين الفاسدين، لكن لا تزال الساحة الفنية تعج بالكثير من القضايا غير المُعلنة، والتي يحميها المال وأضواء الشهرة، أو صمت الضحايا وابتزاز النجوم أصحاب النفوذ.
الصور من موقع شركو باراماونت وحسابات المعجبين بروسكو آرباكل