"هي" تحاور الأكاديمية سارة الراجحي عن فلسفة الفن والحراك الثقافي في السعودية
لطالما احتضنت الساحة الثقافية في المملكة العربية السعودية شخصيات ملهمة تقود التغيير وتفتح آفاق جديدة في عوالم مخفية على مر السنين، في سماء الفن والفلسفة تشع الأكاديمية سارة الراجحي كالنجمة المضيئة، حيث تخوض "هي" حديث ملهم عن فلسفة الفن والحراك الثقافي في السعودية.
تقدم الأكاديمية سارة الراجحي ذاتها كمهتمة بالمعارف والفنون والكيانات الثقافية، كما تحمل خلفية علمية متنوعة، في شقها الأكاديمي سلكت طريق الثيولجي وفلسفة الدين، وساهمت جهودها في مجال الترجمة والفلسفة والفنون في تشكيل المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية.
شاركت في تأسيس منصة معنى الفلسفية وهي مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية، كما أشرفت على ترجمة ونشر كتاب "المقالات" لميشيل دو مونتيني، الكتاب الذي ظل على قوائم الفاتيكان للكتب المحظورة زهاء ثلاثة قرون، وآخر إنجازاتها الفريدة في عالم الفن، مشروع "سارت للفنون" الذي يقدم تقاطعات في الفن والفلسفة بمختلف المجالات الفنية الذي تأتي المعارض كجزء منها حيث قامت سارت معرض "تقاطعات الفلسفة والفن" في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في نسخته الثالثة.
حوار "هي" مع الأكاديمية سارة الراجحي
لسارة .. ماذا يأتي أولاً الفن ام الفلسفة؟
كلاهما معاً، وإن كنت قد دخلت إلى الجانب المعرفي والنقدي في الفن من باب الفلسفة/ فلسفة الفن، إذ ساعدتني الفلسفة على النظر إلى الفن بطريقة مختلفة وأكثر عمقًا، وجعلتني أقف على أسئلة الفنّ، سعيًا لآراء وإجابات على نحو متماسك ومتسق لأسئلة وقضايا، كتعريف الفن نفسه، وتفسير ماهيته، والفرق بين الفن والجمال، والحكم الجمالي، والجميل والجليل، والتجربة الجمالية، والإدراك الفني، وحتى القبح والقبيح... والكثير من المباحث والنظريات والمواقف المثيرة للتأمل والاهتمام، والتي، في ذات الوقت، تكثّف التجربة الجمالية من وجهة نظري.
هل تنفصل الفلسفة والفكر عن عالم الفن في الوطن العربي؟
أظن أنها ما بين انفصال واتصال، وأن الحراك الفني العربي أكثر كثافة وأصالة.
كيف بدأت شرارة فكرة إنشاء منصة معنى؟
كان يسبق معنى مشروع آخر مع إحدى الجهات، عبارة عن برنامج حواري تلفزيوني، لم يُكتب له الظهور، فوجدنا أن لديه فرص واحتمالات وإمكانيات تستحق أن تجد طريقها بشكل أو بآخر، ومن هنا جاءت فكرة منصة معنى في أواخر 2018 كشكل أكثر تنوعًا واستقلالية، فتم العمل على تأسيسها؛ حتى انطلقت في مارس 2019.
بعد إنشاء منصة معنى كيف ترين الإقبال الثقافي من الجيل الجديد مع زعم العديد بتراجع مستوى الثقافة الشخصي في السعودية؟
الإقبال على المعرفة والثقافة بشكل عام موجود، وعبر الأجيال المختلفة، خاصة في السعودية التي عُرفت بالإقبال على الكتب ومعارض الكتب عمومًا، لكن مع مستجدات رؤية 2030 دُعم الحراك الثقافي بشكل كبير ولافت، ووُجدت مساحة حرية وإبداع أكبر سمحت بما نراه الآن، لا سيما مع جهود وزارة الثقافة وهيئاتها المختلفة. إنما يكمن التحدي في الاستمرارية وفي الالتفات إلى المشاريع المعرفية الكبيرة الجادة واستدامتها.
كنت شريك ومؤسسة رئيسة تحرير لمنصة معنى، حدثينا عن تجربتك.
هي تجربة حقيقية بما فيها من نجاحات وتحديات وحتى إخفاقات، نقلتني من جانب القراءة والأبحاث وتراكم المعرفة الشخصي إلى جانب تأسيس وإدارة المشاريع الثقافية، وإدارة إنتاج المعرفة، حتى أنني لم أعد قادرة الآن على النظر إلى أحد المعارف أو المجالات الثقافية بمعزل عن كونها قابلة للانبثاق إلى مشاريع ذات نفع عام، وكيانات ثقافيّة محتملة.
هذه التجربة أيضًا أكدت لي أن الإيمان، والفهم، واتضاح الرؤية والأهداف ينبغي أن تكون ضمن أساسات أي مشروع ثقافي، ذلك أنها تساعدك على اتخاذ القرارات والخطوات الصحيحة، وتزودك بقدر من العزيمة والشجاعة أمام التحديات والخطوات المهيبة، في ذات الوقت الذي تعرف فيه حدودك وإمكانياتك الحقيقية.
كما حدث مثلًا مع قرار التركيز على مجال الفلسفة في هذا المشروع، رغم التوجس تجاهها آنذاك سواء من ناحية النخبوية والصعوبة أو المحاذير الدينية، كذلك الرهان على المواد المعرفية الرصينة التي تحترم القارئ وتقدّر خبرته، وكما حدث أيضًا مع ترجمة كتاب «المقالات» لميشيل دو مونتيني، الذي كانت تتهيّبه دور النشر، لكن الإيمان بأهمية الكتاب، وكون رؤية المشروع آنذاك غير ربحية، وقد حظي بالدعم الذي يسمح بتحمل تكلفته، أدى إلى خلق إصرار لدي على ترجمته، ومدّني بجلَد الإشراف على كافة تفاصيله والمضي في رحلته الشاقة، رغم حداثة تجربتي آنذاك.
بالإضافة إلى أن هذه التجربة وسّعت المعارف والعلاقات الإنسانية لدي، والتي أعدّها رأس مال حقيقي في أي تجربة لا سيما التجربة الثقافية، ذلك أن المجتمع الثقافي مجتمع تفاعلي بطبعه، والمعرفة وإنتاجها ليست بمعزل عن نسيجه، بما فيه من أفكار وقيم وأخلاقيات، وفضائل ينبغي أن تشكّل تعاملنا مع هذه المعرفة ومعاجلتنا لها، فلا يمكن للمعرفة والثقافة أن تزدهر وتلقى القبول بدونها، ومن هنا تبرز أهمية الالتفات لها ووضعها في الحسبان.
من وجهة نظرك، لماذا يحتاج الفن التشكيلي في المملكة لدفع مسيرته وليكون ظاهرة حضارية ملموسة وحراكاً تشكيلياً؟
الفنّ التشكيلي في المملكة له تاريخه وأصالته، لكن ربما ينقصه الحراك النقدي المصاحب، الذي يُعرّف به كما يجب، ويكشف عن جمالياته ومكامن الإبداع والأصالة فيه، ويطور ما يحتاج تطويره. كذلك ربما تنقص المشهد سمة التفاعلية مع المجتمع المهتم بالفنون في المملكة، حيث تغيب المتاحف والمعارض الكبيرة التي تُعرف الناس بالأعمال الفنية السعودية المهمة وتجعلهم في اتصال مستمر معها، فالتركيز منصب عرضه في أستوديوهات خاصة، أو غالريهات البيع.
كيف تساهم المعارض الرقمية الافتراضية في إثراء الحراك الثقافي وتحفيز المبدعين في المملكة؟
لا أعتقد أن المعارض الافتراضية ذات تأثير كبير حتى على مستوى العالم، على الأقل على مستوى ملاحظتي، فهي تقدم معلومات وصور أكثر من كونها تقدم تجاربًا جمالية حقيقية كتلك التي تقدمها المعارض الواقعية. وربما يكون حضور التقنية هنا أكثر جدوى في المعارض الرقمية التفاعلية التي انتشرت حول العالم لما تقدمه من تجارب غامرة واستثنائية.
كيف يقاس نجاح الفنان في الوقت الحالي؟
هناك مقاييس مختلفة، وليست دائمًا متسقة، وقد تختلف باختلاف الآراء والسياقات الثقافية. من تلك المقاييس: الشهرة والانتشار، المبيعات والقيمة المالية للأعمال، التأثير الفني والاجتماعي، الإبداع والأصالة، القيّمين والمؤسسات الفنية... الخ. بالنسبة لي يكمن النجاح أكثر في الأصالة والإبداع، والتي ستجد طريقها حتمًا للتقدير ولو بعد حين، والشواهد التاريخية على ذلك متوفرة، وكذلك أن يعود الفنان لنفسه ويسمع صوته الداخلي وما إذا كان لديه شيء حقيقي ذو قيمة، يستحق المضي والمشاركة ونيل التقدير.
هل يصنع المجتمع الحراك الثقافي؟
بإيجاز ربما يكون مخلّاً، الأصل أن العلاقة بين المجتمع والحراك الثقافي تفاعلية ومترابطة، وأي حراك مفتعل ومبتور عن مجتمعه لا قيمة فعلية له، وهو أشبه بانشغالات مترفة أو انشغالات بمجتمعات الغير. المجتمع يُفترض أن يكون رافدًا للأسئلة والمواضيع والظواهر والشواهد والحاجات... ومن يقوم بهذا الحراك إن انفكّ عنه وعنها سيُحرم من الأصالة والتأثير.
من وجهة نظرك، كيف يبقى الحراك الثقافي المحلي مغرياً للمثقف أو جذابا للمتلقي في ظل ثورة وسائل التواصل وانفجار التقنية الحديثة؟
الأصل أن المثقف أو صاحب الحراك سواء كان فردًا أو جهة حكومية أو غير حكومية أن يعمل بمعزل عن سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، وألا ينشغل بأرقامها والدارج فيها، وإنما يتعامل معها كوسيلة مفيدة لترويج المعرفة وتسهيل وصولها، والتفاعل مع الفئات المستهدفة فيها.
جميع الصور من معرض سارت للفنون الذي أقيم في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في نسخته الثالثة