النوم والطعام والتمرين والتوتر.. لماذا تحسين أي منها يمكن أن يُحسن الباقي
يحمل شهر مايو من كل عام، معنى مختلف للكثيرين من الناس؛ فهو شهر التوعية من الصحة العقلية أو الصحة النفسية. ويُعدَ هذا الموضوع مهمًا جدًا، خاصةً في السنوات الأخيرة، نظرًا لاهتمام الناس والجسم الطبي بأهمية العناية بالصحة النفسية والعقلية، وتأثيراتها على الصحة الجسدية بصورة كبيرة.
وعندما نذكر الصحة النفسية، فإن أول ما يتبارد إلى خاطرنا: التوتر.. إنه مرض العصر الحديث، الذي بات يؤرق الملايين من الناس حول العالم، كبارًا وصغارًا، ويُخلَف الكثير من التداعيات السلبية على الصحة.
يأتي التوتر بأشكال وأنماط مختلفة، وقد يكون وليد بعض الحوادث أو الأحداث المؤلمة وغير الطبيعية التي يمرَ بها الإنسان. إلا أن التوتر ليس كله سيئًا كما يعتقد البعض، فهناك "التوتر الجيد" الذي قد يُحفزَنا على المثابرة والاستمرار في أمر ما لحين النجاح في تحقيقه.
ويؤثر التوتر على كافة مكونات الحياة، سواء لجهة النوم أو الأكل أو النشاط البدني؛ وفي حال عدم معالجته بشكل صحيح وطبي، يمكن للتوتر أن يؤثر على صحة أجهزة عدة في الجسم، وعلى رأسها القلب.
لذا توجهنا بالحديث إلى عدة خبراء في الصحة الجسدية والنفسية، لتسليط الضوء أكثر على التوتر وتأثيره على نوعية وجودة الحياة بكافة مجالاتها؛ وكذلك استعراض الحلول التي تسهم في التخلص من التوتر وتداعياته السلبية.
بدايةً، ما هو التوتر
تقول الدكتورة مونيكا فوستر، حاصلة على دكتوراه، أخصائية الصحة النفسية السريرية في منظومة مايو كلينك الصحي في لاكروس، ويسكونسن، أنه تعريف التوتر بأنه أي نوع من التغيير يتسبب في تنشيط جسدي أو عاطفي أو معرفي. وبناءً على هذا التعريف، يمكن أن تكون الأحداث "الجيدة" مُحفَزة للتوتر- مثل الحصول على وظيفة جديدة أو الذهاب في إجازة أو الزواج. ومع ذلك، فإننا نميل إلى التفكير في الأحداث السلبية عندما نتحدث عن التوتر؛ لكن في الواقع، إن إدراكنا وتفسيرنا للأمور هو الذي يؤثر على استجابتنا للأحداث.
مضيفةً أن أي اضطراب في الروتين المعتاد، يمكن أن يُسبَب تجربةً مثيرة للتوتر. ويزداد التوتر أو يطول وقته إذا نظرنا إلى هذا الحدث على أنه نوعٌ من التهديد (جسدي أو عاطفي أو معرفي)، واعتقدنا أننا لا نستطيع التعامل مع الحدث.
كيف يؤثر التوتر على الصحة الجسدية والعقلية
بحسب فوستر، يتم تفعيل استجابة القتال أو الهروب أو التجميد على الفور، عندما نتعرض لحدث مثير للتوتر؛ مما يُنشَط الاستثارة الفسيولوجية التلقائية للجهاز العصبي السمبثاوي أو الودي (أحد فروع الجهاز العصبي التلقائي). ويحدث ذلك دون الحاجة إلى التفكير أو استخدام معالجة عقلية.
عندما يتم فرز الكورتيزول، وهو هرمون التوتر؛ وتتسع حدقة العين، وتتوتر العضلات، ونتعرق، ويصبح تنفسنا سريعًا وسطحيًا. كما أن هضمنا يتباطأ، ويزداد ضغط الدم ومعدل النبض.
في حال واجهت عزيزتي حالةً طارئة تُهدد حياتك (فكري مثلاً في نمر يطاردك)، فكل هذه الاستجابة مُصمَمة لمساعدتك في البقاء على قيد الحياة. وبمجرد انتهاء حالة الطوارئ، يبدأ نظامنا العصبي بالعمل عبر قسمه الآخر، أي الجهاز العصبي اللاودّي لعكس وظائف الأعضاء. ومع ذلك، فإن معظمنا لن يتعرض لمطاردة النمور. ولكن لدينا أحداث الحياة اليومية المُستمرة، مثل دفع الفواتير، والتعامل مع ضغوط العمل والمنزل والصراعات بين الأفراد.
ونظراً لأن هذه الأنواع من الضغوطات تبقى مستمرة في العادة، فإننا لا نحظى بفرصة للانتقال من الاستجابة الودية إلى الاستجابة اللاودية. لذلك، تستمر كل هذه الأعراض الفسيولوجية وينتهي بنا المطاف بـ "أمراض التوتر" مثل ارتفاع ضغط الدم، والصداع، واضطرابات الجهاز الهضمي مثل ارتجاع المريء، والإجهاد العام. ما يمكن أن يؤدي إلى صعوبة التركيز وزيادة القلق.
تأثير التوتر على عادات الأكل والنوم
بالنظر إلى الاستجابات الفسيولوجية الموضحة أعلاه، من الطبيعي أن شهية المرء قد تتأثر، تؤكد فوستر. مشيرةً إلى أنه في بعض الأحيان، لا نشعر بالرغبة في تناول الطعام؛ لأن عملية الهضم لا تعمل بشكل جيد، إلى جانب المعاناة من اضطرابات المعدة. وفي حين آخر، قد نستخدم الطعام كوسيلة لتهدئة أنفسنا، فهناك الكثير من الأدلة التي تثبت أننا نُفضَل الكربوهيدرات أو الدهون عندما نكون تحت الضغط، كما أن مستويات الكورتيزول المتزايدة تُوجَه أجسامنا لتخزين السعرات الحرارية على هيئة دهون.
كذلك يتأثر النوم بسبب التوتر الفسيولوجي العام والقلق وزيادة العادات غير المفيدة المرتبطة بنومنا. قد نهرب إلى فراشنا لتجنب التوتر، فيتم ربط السرير بالمشاعر السلبية، أو قد ننتقل إلى هواتفنا أثناء التواجد في السرير لتجنب التفكير في أشياء أخرى، وهذا يُقلَل من إفراز الميلاتونين، وهو هرمون النوم.
هل يمكن لأنواع معينة من الطعام أو النشاط البدني التسبب بالتوتر؟
كا لا بدَ من طرح هذا السؤال على أخصائية الصحة النفسية، والتي أجابت أن الأطعمة المُعالجة غير صحية، وقد تُسبَب الإدمان نوعاً ما، مما يمهد لدائرة من المعاناة من التوتر، والوصول إلى الأطعمة "السهلة". "وكما نعلم، فإن ميكروبيوم الأمعاء يلعب دورًا كبيرًا في الحفاظ على صحتنا الجسدية والنفسية. وعندما يختل هذا التوازن، فإنه يؤدي إلى حدوث التهاب يكون سامًا إلى حد ما، ويؤثر على جميع أجهزة الجسم بما في ذلك الجهاز العصبي. وغالبًا ما يؤدي الإفراط في تناول الدهون والكربوهيدرات إلى الإصابة بالسُمنة، والتي تُعدَ ضغطًا جسديًا عاليًا على الجسم، فضلاً عن الجانب النفسي والعاطفي."
وتضيف فوستر: "يُعدَ النشاط البدني مهمًا جدًا لصحتنا العامة، ولكن الكثير من الأفراد لا يمارسون الرياضة والحركة. وتتطلب العديد من أماكن العمل لدينا أيضًا حركات متكررة، سواء كان ذلك العمل في مصنع، أو الجلوس على الكمبيوتر. هذا المزيج يخلق المزيد من التوتر بشكل عام، وإذا لم يكن هناك نشاط تعويضي، مثل تمارين الإطالة أو التمارين الهوائية، فإن أجسامنا ستشعر بالإجهاد."
إذن، نحن بحاجة لتحسين إدارة التوتر لتجنب هذه المشاكل..
بالطبع، تجيب فورستر: "عندما نتحكم في استجابتنا للتوتر، فإننا نُركَز على ما هو تحت سيطرتنا. من خلال التنبه لعادات نومنا، وممارسة التمارين الرياضية بالقدر الكافي، وتناول الطعام الصحي، وممارسة تقنيات الاسترخاء، مثل التنفس من البطن؛ فإننا نسمح لنظامنا العصبي بالعودة إلى خط الأساس بعد الاستجابة للضغوط الخارجية. وتساعدنا أساليب إدارة التوتر على الشعور بمزيد من الثقة في قدرتنا على التعامل مع ما نواجهه في الحياة، وفي كل مرة نمرّ فيها بحدث مثير للتوتر ونستخدم هذه الاستراتيجيات، يمكننا أن نشعر بإحساس الرضا."
متى يجب على الشخص المصاب بالتوتر استشارة أخصائي؟
التوتر هو جانبٌ طبيعي من الحياة، تفيد فوستر؛ "وكما ذكرنا، فإن تعلَم كيفية الاستجابة بالسلوكيات الصحية هو أساس معالجة هذا التحدي. ومع ذلك، غالبًا ما تمرَ بعض الأوقات ويتخللها الكثير من الأحداث المثيرة للتوتر، وقد تكون مرهقةً للغاية. يجب أن نطلب المساعدة عند الشعور (بأنه لا يمكننا التعامل مع الأمر). عندما يؤثر التوتر على الأداء الاجتماعي والمهني، فهذه إشارة بضرورة استشارة المختص. نحن نعيش في زمن ما بعد الجائحة الآن، حيث اعتاد الناس على العزلة. إن طلب المساعدة هو إحدى الطرق لكسر تلك العزلة."
مكونات الحياة الصحية
النوم بشكل كافٍ، وتناول طعام صحي، وممارسة الرياضة، والتكيف مع التوتر؛ كلها مكونات لصحة جيدة، تقول صفية ديبار، حاصلة على بكالوريوس الطب والجراحة، وخبيرة في الفحوصات الطبية المُخصَصة في مايو كلينك للرعاية الصحية في لندن. وتضيف أن التركيز على أربعتها في آن واحد خلال جدول مزدحم، قد يبدو أمرًا مستحيلًا. لذا تشرح لنا، كيف أن إيلاء المزيد من الاهتمام، لهذه المجالات يمكن أن يُحسَن الباقي.
وتقول الدكتورة ديبار: "بالتركيز على أي من هذه العوامل، فقد تتأثر صحتك بشكل كبير. إن كل شيء يبدأ في الدماغ؛ يكون الدماغ في حالة (الراحة والإصلاح والاسترخاء)، وخلالها بفرض أنك تتمتع بصحة جيدة في العموم، يعمل الجسم على النحو الأمثل. أو قد يكون الدماغ في حالة توتر، وخلالها يصبح الشغل الشاغل للجسم هو التعامل مع واحد أو أكثر من التهديدات المتصورة، وهنا تصير الاحتياجات المادية الأخرى في المرتبة الثانية."
وتضيف: "دماغنا لا يُميَز. إن تصوَر التهديد كالتهديد الحقيقي بالنسبة للدماغ، لذلك بمجرد أن تضغط على هذا الزر، يحدث نفس التسلسل".
يمكن أن يؤثر التوتر على النوم والأكل وممارسة الرياضة. على سبيل المثال، عندما يكون الدماغ في حالة توتر، فإنه يفكر على المدى القصير ويُركَز على الشعور بتحسن فوري. لهذا من الشائع اشتهاء الأطعمة السكرية أو الدهنية أو كليهما، وعدم بذل جهد لممارسة الرياضة عند التوتر، تقول الدكتورة ديبار؛ مشيرةً إلى إن الدماغ يُخبر الجسم بأنه يحتاج إلى طاقة فورية.
وتضيف: "يريد الدماغ أن يشعر بالتحسن على الفور، لذلك لن يفكر في ممارسة الرياضة ثم الشعور بالتحسن بعد ذلك. كل شيء مترابط."
تحسين النوم والأكل والرياضة لعلاج التوتر
بالمقابل، يمكن أن يؤثر النوم والأكل وممارسة الرياضة على كيفية تعاملنا مع التوتر. ومن الأسئلة الرئيسية التي يجب أن نطرحها على أنفسنا بحسب ديبار:
- "كيف هو نومي؟" إذا لم يكن جيدًا، فربما يُجب أن تركَزي هنا، من خلال النوم مبكرًا أو تغيير جانب من روتين نومك.
- "هل تعمل الأمعاء كما يجب؟" إذا كنت تعانين من مشاكل في الجهاز الهضمي، فمن الأفضل لصحتك تحسين تغذيتك.
- "كيف هو الدعم الاجتماعي الذي أحصل عليه؟" فهذا يمكن أن يؤثر على الحالة المزاجية.
- "هل هناك أشياء معينة تجعلني أتوتر؟" على سبيل المثال، إذا كان فحص البريد الإلكتروني قبل النوم أو فور الاستيقاظ يُولَد التوتر، فمن الأفضل لك التفكير في كيفية تغيير هذا الجزء من روتينك، لتبقي هادئة البال.
- "كيف هو تمريني؟" إذا كانت الإجابة: قليلة، حاولي إيجاد طرق فعالة لإضفاء المزيد من الحركة على يومك.
وتؤكد الدكتورة ديبار: "إن مجرد مساعدة أمعائك قد يكون كافيًا لك، أو مجرد تحسين نومك، قد يكون ذلك كافيًا لك. إن تلك العناصر الأساسية البسيطة هي ما يكون ذا أثر كبير عليك. لذا أنصحك عزيزتي بتحرَّي فعل أشياء بعينها".
مشيرة إلى إن تحرَي عوامل الصحة هذه، يمكن أن يشعرك بالتحكم في حياتك. وتختم بالقول: "لا يجب أن يكون الأمر أن الطبيب أخبرني أن أُنقص وزني وأن أنام وأن أُقلَل من التوتر. فعندما تفهمين أُسس صحتك، لن تلقي باللوم على نفسك بسبب عدم ضبطك لنفسك أو التسويف أو عدم الانضباط؛ بل ستفكرين كيف تضيف هذه الممارسات إلى حياتك."
ختام القول، أن التوتر مسألةٌ محسومة لا مفر منها في هذه الحياة، وينبغي علينا تعلَم كيفية إدارته والتخفيف من حدته؛ كي لا يؤثر على نواحي الحياة المختلفة من غذاء ونوم ورياضة وغيرها. وتعلَمي عزيزتي كيف تُوظَفين هذه المسائل جيدًا، لتساعدك على إدارة التوتر بفعالية.