لديهم القدرة على عيش حياةٍ كاملة وطبيعية: تصحيح معتقداتٍ خاطئة حول مرضى الصرع
عندما يتم تشخيص أي شخصٍ بمرضٍ مزمن أو خطير، تنقلب حياته رأسًا على عقب؛ ويصبح من الصعب عليه العودة للوراء، حيث كان يعيش باستقرارٍ وسعادة، مطمئنٍ إلى أنه لن يصيبه حتى خدشٌ بسيط. فكيف إذا كان تشخيص المرض، مرتبطٌ بالصرع؟ يعتقد الكثيرون أن مرضى الصرع ممن تصيبهم النوبات وخروج الزبد من أفواههم، هم عرضةٌ للموت في أيَ لحظة؛ يُوصمون بوصمةٍ اجتماعية غير مُنصفة، ما يجعلهم يعانون مرتين: الأولى بسبب المرض، والثانية بسبب نبذ المجتمع لهم.
الصرع مرضٌ مزمن غير سارٍ، يصيب الدماغ ويؤثر على نحو 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم؛ يتميز بنوباتٍ متكررة، هي عبارة عن نوبات وجيزة من الحركات اللاإرادية التي قد تشمل جزءً من الجسم (جزئية) أو الجسم كله (عامة)، ويصاحبها أحيانًا فقدان الوعي والتحكم في وظائف الأمعاء أو المثانة.
تنجم هذه النوبات عن فرط الشحنات الكهربائية التي تُطلقها مجموعةٌ من خلايا الدماغ، وهي شحناتٌ قد تنطلق من أجزاء مختلفة من الدماغ. قد تتراوح النوبات بين غفلات الانتباه القصيرة الأمد للغاية، ونفضات العضلات الخاطفة والاختلاجات الممتدة؛ كما أن النوبات قد تختلف من حيث مدى تواترها، من أقل من مرةٍ واحدة في السنة إلى عدة مراتٍ في اليوم.
لا يعني حدوث نوبةٍ واحدة، أن الشخص مُصابٌ بالصرع (يُصاب 10% من الناس حول العالم بنوبةٍ واحدة خلال حياتهم). ويُعرّف الصرع بأنه التعرض لنوبتين غير مُبرَرتين أو أكثر، وهو من أولى الحالات الصحّية التي تعرَف الإنسان عليها، حيث تشير إليها كتابات سُجلت في عام 4000 قبل الميلاد. وقد أُحيط الصرعبالخوف والتمييز والوصم الاجتماعي على مدى قرون، ويستمرهذا الوصم للأسف في العديد من البلدان حتى يومنا هذا، ما قد يؤثر على نوعية حياة المُصابين بهذا المرض وأسرهم.
أخصائي من كليفلاند كلينك، يؤكد قدرة مرضى الصرع على عيش حياةٍ كاملة وطبيعية؛وذلك بالتزامن مع جهود هيئات عالمية لتصحيح معتقداتٍ خاطئة حول هذه الحالة العصبية الشائعة. ويهدف اليوم العالمي للصرع (12 فبراير) إلى تحسين فهم الصرع ودعم جهود منظمة الصحة العالمية الرامية إلى ردم الفجوات الحالية المتعلقة بدمج المرضى وعلاجهم.
مرضى الصرع قادرون على عيش حياةٍ كاملة وطبيعية
هذا ما أكدَه الدكتور عماد نجم، مدير مركز الصرع في معهد الأعصاب في مستشفى كليفلاند كلينك؛ مشيرًا إلى قدرة المصابين بالصرع على عيشحياةٍ كاملة وطبيعية،بما في ذلك إنجاب الأطفال والمشاركة في حياةٍ اجتماعية نشطة وخوض مسيرةٍ مهنية ناجحة، ولكن يجب عليهم بهدف تحقيق ذلك الحصول على الرعاية الصحية الملائمة وفي الوقت المناسب. وتعكس تصريحات الأخصائي نقاط التركيز الأساسية لمُنظَمي اليوم العالمي للصرع،والرامية إلى دعم الجهود المبذولة من قبل منظمة الصحة العالمية بغية ردم الفجوات الحالية المتعلقة بدمج المرضى وعلاجهم.
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى وجود نحو 50 مليون مصابًا بالصرع في جميع أنحاء العالم، ما يجعله أحد أكثر الأمراض العصبية انتشارًا حول العالم. وأوضح الدكتور نجمأن السمة الرئيسية لهذا المرض هيتعرَض المصابين لنوباتٍ متكررة ولا إرادية، تتراوح بينخفيفة إلى شديدة؛مُبيَنًا أنه يمكن لمرضى الصرع في حال تشخيص هذه الحالات وإدارتها بشكل جيد،عيش حياةٍ كاملة وطبيعية.
أهمية تصحيح المعتقدات الخاطئة حول الصرع
وقال: "من المهم تصحيح المعتقدات الخاطئة حول الصرع، إذ يُمكَنها أن تؤدي إلى تعرَض المرضى لآثار التحيَز والحكم المُسبق عليهم سواءً في المدرسة أوأماكن العمل أوفي البيئات الاجتماعية المتخلفة؛ما قد يمنعهم من طلب الرعاية التي يحتاجون إليها أو قد يثنيهم عن تناول الأدوية الموصوفة لهم. ويُعتبر ذلك مصدر قلقٍ كبير، إذ قد تؤدي النوبات في حال عدم علاجها إلى التأثير سلبًا على صحة الفرد أو الإضرار بالأعصاب المتأثرة في الدماغ. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يُمكن للمرضى الذي يصابون بالنوبات، في حال عدم علاجهم، أن يسقطوا على الأرض أو يغرقوا أو يتعرضوا لحوادث حروقٍ أو حتى يواجهوا خطر الموت المُبكر وغير المُتوقع".
وأضاف أن المفاهيم الخاطئة حول ماهية نوبة الصرع، قد تؤدي إلى تجاهل الأفراد للنوبات الخفيفة، أو الخطأ في تشخيصهمعندما يسعون للحصول على المساعدة الطبية.
وقال: "على الرغم من الاعتقاد الشائع لدى الكثيرين بأن مريض الصرع سيُصاب بتشنجاتٍ وخروج الزبد من الفم، إلا أن معظم النوبات قد تكون غير ملحوظة. على سبيل المثال، قد تتجسد نوبة الصرع في صورة تحديقٍ طويل ورمشٍ سريع للعين؛ أو سلوكٍ غير عادي مع قيام المريض بحركات مضغٍ أو حركات التقاطٍ باليد؛ أو شعورٍ قوي بأن الموقف الذي يمرَ به المريض في لحظةٍ معينة قد حدث معه سابقًا؛ أو أن تكون العضلات متشنجةً أو مرتخيةً على نحوٍ زائد. ومن النادر أن تظهر النوبة على شكل ارتعاشٍ في الذراعين أو الرجلين أو الرأس، أو السقوط أرضًا، أو فقدان الوعي".
تطوَر طرق التشخيص والعلاج لمرض الصرع
أوضح الدكتور نجم أن تشخيص الصرع يتسمَ لحسن الحظ بالسرعة والسهولة، ويمكن القيام بالتشخيص من خلالإجراء اختبار تخطيط كهربية الدماغ (EEG) الذي يقوم بتسجيل الأنشطة الكهربائية للدماغ؛كما يمكن تقييم السبب المُحتمل للمرض من خلال إجراء تصويرٍ بالرنين المغناطيسي (MRI).
وأضاف الدكتور نجم أن الأساليب العلاجية قد تطورت بشكلٍ كبيرخلال العقد الماضي، وخاصةًبالنسبة للمرضى الذين لم يستجيبوا للأدوية التقليدية، وقال في هذا السياق: "يمكن لغالبية المرضى إدارة النوبات التي يُصابون بها من خلال استخدام أدوية ميسورة الكلفة وآمنة ومُستخدمة منذ أعوامٍ طويلة. ولكن في حال فشل نوعٍ أو نوعين من الأدوية التقليدية في علاج المرضى، فقد أصبح لدينا أكثر من خيارٍ علاجي في الوقت الحالي."
وبيّن الدكتور نجم أن الدواء الذي يحمل اسم "سينوباميت" (cenobamate) والذي حصل على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية في عام 2019، أظهر فعاليته لدى نحو 20-30% من المرضى الذين لم يُسجلَوا أيَ تحسنٍ بعد استخدام عدة أدوية تقليدية.
وتابع أنه في حال عدم القدرة على التحكم بنوبات الصرع باستخدام الدواء، فقد يكون الحل في اللجوء إلى عملٍ جراحي؛ مشيرًا إلى ارتفاع أعداد المرضى المرشحين للخضوع لهذا النوع من الجراحة في الوقت الحالي مقارنةً بالعقود الماضية.
وقال الدكتور نجم: "بفضل طرق التصوير المتطورة والبرمجيات التي تُوظَف تعلَم الآلة وغير ذلك من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور، فإنه يمكننا تحديد جزء الدماغ الذي تنشأ منه النوبات، ومن ثم إزالته. ويمكن أن تسهم هذه الجراحة في 50% من الحالات في علاج النوبات تمامًا، أي أن يعيش المريض بقية حياته دون الإصابة بنوبات. بالإضافة إلى ذلك، فإننا نُجري هذه الجراحة لمرضى مُسنين أكثر من ذي قبل؛ وذلك بفضل تمتَع كبار السن الآن بصحةٍ أفضل من قبل، وتحسَن مستويات السلامة العامة التي تتمتع بها هذه الجراحة."
وأثنى الدكتور نجم على الجهود العالمية التي تبذلها الجهات المُنظَمة لليوم العالمي للصرع-المكتب الدولي للصرع والرابطة الدولية لمكافحة الصرع- وذلك بهدف مواجهة ما تُطلق هذه الجهات عليه إسم "مستويات المعرفة الصحية المتدنية ومستويات سوء الفهم والمفاهيم الخاطئة المرتفعة" والخاصة بمرض الصرع.
واختتم قائلًا: "من الضروري ضمان ألا تؤدي المفاهيم الخاطئة والشائعة حول الصرع إلى نفور المرضى من الحصول على العلاج أو عدم التزامهم بالبرامج العلاجية المُقدَمة إليهم، إذ يمكن لهؤلاء المرضى في حال الإدارة الجيدة للنوبات أن يعيشوا حياةً طبيعية وكاملة، ويجب على جهات العمل وأفراد المجتمع إدراك هذه الحقيقة جيدًا."
خلاصة القول، أن الصرع قد يكون مرضًا مُزمنَا لكنه لا يعيق حياة المصابين به، ممن يقدرون على التنعم بحياةٍ طبيعية وتامة دون الخوف الدائم من النوبات الشديدة، وهي من المعتقدات الخاطئة التي يحاول الأطباء والمختصون تبديدها يومًا بعد يوم. وعليه، ينبغي علينا جميعًا فهم هذا المرض مليًا ومساعدة المصابين به على إدارته بصورة جيدة؛ كي ينعموا بحياةٍ اجتماعية ومهنية ناجحة دون أي مُنغصات أو وصمات.