اكتشفي معّنا السرّ النفسي وراء "تلاعب" الموسيقى بمشاعركِ
في الحقيقة، الموسيقى ليست كاللغة بالمعنى المفهوم، أي إنها لا تحمل أية دلالات، وعلى الرغم من ذلك فإننا نستجيب لها كأداة تواصل، لكن ليس لأنها صوت فقط، فنحن نسمع أصوات الضرب والاحتكاك طوال اليوم ولا يُلحقنا ذات الأثّر.
ربما لهذا السبب تصور فريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني الأشهر، في كتابه "مولد التراجيديا"، أن الموسيقى هي شرط ترانسندالي سابق للغة، كذلك ربطها بما تعنيه "الإرادة"، بل ووضعها كصورة بدائية من وجودنا ذاته. وبذلك يكون التعرف إلى الموسيقى، بالنسبة لنيتشه، والتعرّف بها إلى العالم، هو تعرّف إلى ذواتنا، تكميل لها!
ترجع بدايات البحث خلف كل أشكال العلاقة بين الموسيقى والاستثارة العاطفية إلى المؤلف الموسيقي، والفيلسوف، وأحد واضعي نظرية الجمال في الموسيقى، ليونارد ماير؛ وذلك خلال كتابه " العاطفة والمعنى في الموسيقى" المنشور بالخمسينيات من القرن السابق.
والذي استخدم تقنيات من علم النفس، ونظرية المعلومات، والألفة المسبقة مع أنواع محددة من الموسيقى، لتفسير تلك العلاقة.
رغم ذلك، لم يحدث حتى الثمانينيات أن تفاعلت النظريات الموسيقية مع علم النفس التجريبي، ربما لأن معظم الباحثين في هذا المجال كانوا بالأساس من المؤلفين الموسيقيين، لكن مؤخرًا بدأت العلوم التجريبية، النفسية والعصبية، في الولوج بقوة أكبر على أرض هذا المجال البحثي؛ وخصوصًا مع تطور تقنيات التصوير الدماغي "الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI "، والتي تُمكننا بشكل مباشر من تتبع أثر الموسيقى على دماغ مستمعيها وقت استماعهم للموسيقى.
وبناءً على ذلك، سنتعرف معًا على دراسة حديثة نسبيًا تحاول إيجاد حل للمشكلة الرئيسة التي تواجه العلاقة بين الموسيقى والمشاعر البشرية، لذا تابعي معنا السطور القادمة للتعرفي على السر النفسي وراء تلاعب الموسيقى بمشاعرك، من خلال استشارية الطب النفسي الدكتورة لبنى عزام من القاهرة.
درجات من التناقض
بحسب دكتورة لبنى، إن هناك درجات من التناقض بين جانبين، جانب يتصور أن الموسيقى بالكامل تتلقى استجابة بيولوجية عصبية في الدماغ، لكن هُناك أدلة تؤكد أن الموسيقى في العموم لا تترك هذا الأثر، بمعنى أن مقطوعة موسيقية ما قد تكون حزينة بالنسبة لكِ فقط، أو أن موسيقى فلكلورية فنلندية، مصرية، روسية، قد لا تكون مقبولة لكِ، بينما تكون مقبولة لآخرين؛ جرّبي مثلًا أن تسألي الآخرين من حولك عن آرائهم في موسيقى شوبان أو فاجنر.
التأثيرات العامة المرتبطة بنمط النغمات
أضافت، في الجانب الآخر؛ فإننا لا نرى أن الموسيقى تتخذ جانبًا سياقيًا فقط، أقصد خاصًا بالسياقات الاجتماعية، لكن أيضًا نجد أن هُناك بعض التأثيرات العامة المرتبطة بنمط النغمات وترددها على الدماغ البشري.
هُنا يدخل إلى أرض الملعب كل من باتريك جوزلين Patrick N. Juslin أستاذ علم النفس من جامعة أوبسالا السويدية ودانيال فياسفيَل Danial Västvjäl، من جامعة جوتبورج بالسويد أيضًا، ليؤكّدا أن الأمر المُتعلق بالموسيقى هو أكثر تعقيدًا من أن تشرحه آلية واحدة، أو حتى اثنتين "دماغية واجتماعية"، ولكن هناك ست آليات، تسمى النظرية التي تجمعها بـ " نظرية الآليات المتعددة " Multiple Mechanisms Theory.
نظرية الآليات المتعددة
أوضحت دكتورة لبنى، أن تلك الآليات تبدأ باستجابة منطقة دماغية تُدعى جذع الدماغBrain Stem Reflex. في الحقيقة، لا تزال استجابة تلك المنطقة، وباقي الدماغ، بيولوجيًا للمثيرات الصوتية محل بحث علمي نشط.
لكن هُناك بعض الإشارات المُهمة التي يُمكن أن تفيدنا هنا، فمثلًا نجد أن الأصوات الأعلى من تردد محدد " الأصوات العالية والمضطربة" أو الأقل منه "حركة خفيف شيء ما" تستدعي استجابة مُباشرة للجهاز العصبي المركزي في جسم الإنسان، أو حتى بقية الحيوانات.
نقصد هنا الشعور بالخطر أو الخوف، وهو ما يدعونا إلى توقع أن يكون نطاق التردد الصوتي الواقع ضمن جزء مُحدد بين الترددات العالية والمنخفضة ذا أثرّ مقبول للدماغ.
بالإضافة إلى ذلك، إن ما نعرفه عن منطقة جذع الدماغ يشرح سبب التأثر بالموسيقى، فهي كذلك المنطقة التي تتكامل وظيفيًا مع الجهاز الدوري للجسم، والقلب، والأوعية الدموية، كذلك مع وظائف التحكم بالجهاز التنفسي، ومناطق الحس المسؤولة عن الانتباه، والتأهب، والوعي بشكل عام.
حتى إن أي تلف في تلك المنطقة يعني تهديدًا مُباشرا لحياتنا، وبذلك فقد يبدو مقبولًا أن تقول التجارب على الرضع إن هناك تسارعًا واضحًا في معدلات سرعة القلب لدى الأجنة في باطن الأمهات مع استجابة حركية فور سماع موسيقى صاخبة، وينخفض المعدل مع تهدئة الصوت شيئًا فشيئًا.
من ناحية أخرى، تتدخل آلية ثانية وهي التقييم المشروط Evaluative Conditioning لتشرح سبب الاستجابة العاطفية للموسيقى، فتقول إن تكرار حدوث نفس الموسيقى مع حدث ما، ليكن مثلًا لقاؤكِ السعيد بأصدقائك، أو توتركِ لسماع نغمة هاتفك التي خصصتيها لمديرك في العمل، أو شعورك بالفخر لدى سماع موسيقى معينة في الأعياد الوطنية، وغير ذلك؛ يتسبب في شعور "موجب أو سالب، حسب الحدث" في حال الاستماع لتلك الموسيقى بعيدًا عن الحدث.
بمعنى أن استثارة انتباهك للحزن تجاه مقطوعة موسيقية مُحددة قد يكون مشروطًا بحدث ما؛ لكنك لا تعرفي هذا الحدث. وبذلك فإن ما يميز تلك العملية هو أنها غير واعية، غير مقصودة، تتم دون جهد، ويرتبط ذلك بتفعيل مناطق تحت قشرية في الدماغ تتضمن اللوزة الدماغية والمخيخ. علمًا أن تلك الحالات المشروطة تستمر مؤثرة لفترات زمنية طويلة.
الذاكرة العرضّية الخاصة بنا
هي استحضار موسيقى ما لذكرى سعيدة أو حزينة، لكن المثير للاهتمام هُنا هو مدى قدرة الموسيقى على استحضار تلك الذكريات بكامل المشاعر المُتعلقة بها، بل إن بعض التجارب تقترح أن الأفراد الذين اقترنت الموسيقى بالكثير من ذكرياتهم عن فترة الطفولة سيميلون بشكل طبيعي إلى العمل في المجال الموسيقي حينما يكبرون. لكن بالطبع، نجد أن الكثيرين يستجيبون بالحزن أو الفرح لموسيقى ما، دون أي حالات شرطية.
هنا يجب أن نوضح أن تلك الآليات الستة التي تفترضها النظرية الجديدة لا ترتبط ببعضها البعض، وإنما كل منها يعمل بخط سير خاص به كمُفسر لحالات دون غيرها، لكن يمكن لنا -حسب جوزلين وفياسفيَل- أن نعتبرها مكملة لبعضها البعض.
العدوى العاطفية
أضافت دكتورة لبنى، إلى الآن نحن لم نتحدث عن أثر الموسيقى نفسها المتشابه على الكثير من الأفراد، كيف يحدث ذلك؟ هنا يمكن لآلية أخرى من النظرية أن تشرح ذلك الجانب، ونسمّيها العدوى العاطفيةEmotional Contagion، ويعني أن تستثار العاطفة بشكل صغير بناءً على الوتيرة البطيئة للصوت، أو المستوى المنخفض له، ضمن الحدود التي تحدثنا عنها منذ قليل.
ثم بعد ذلك، يقوم الواحد منّا داخليًا بتضخيم أو حفز هذا الأثّر، أو خارجيًا عبر العدوى العاطفية، أي إننا كبشر، حينما نرى تأثرًا من نوع ما على وجوه الآخرين تجاه موسيقى حزينة، مثلًا، أو أصواتهم، فنحن نميل إلى تجاوز عملية تقييم الموسيقى المعروضة أمامنا إلى تصديق أنها بالفعل حزينة بناء على ما بدر من الآخرين.
في الحقيقة، يتجاوز أمر العدوى العاطفية حدود التأثر السلوكي، فقد أثبتت التجارب الخاصة بجوزلين وفاسفيَل، والتجارب السابقة لهما، أن البشر يلتقطون نفس تعابير الوجه من الآخرين الموجودين في صور فوتوغرافية، حقيقية أو تمت معالجتها بالفوتوشوب، عبر انقباض نفس العضلات بنفس القدر.
وهذا هو أيضًا أحد التفسيرات التي تشرح الرابط بين الطفل الرضيع وأمه، أنهما يُحاكيان نفس التعابير ويشعران بنفس الوتيرة، وبمعايير علم النفس التطوري يُمكن النظر إلى تلك الظاهرة على أنها أساسية لإبقاء التواصل بين أفراد الجماعة في أفضل أحواله، فالجماعة أقوى من الفرد وأكثر أمانًا.
الصور المرئية
أشارت دكتورة لبنى، إلى أن ما سبق يرتبط أيضًا بآلية سلوكية أخرى ذات علاقة باستحضار الصور المرئيةVisual Imageryمن الدماغ، وتُعتبر تلك الصور العقلية محركًا أساسيًا لاستجابات فيسيولوجية عدة لدى البشر.
يرى الباحثين، بالإشارة إلى تجارب سابقة وحالية، أن السبب هو محاولة البشر ترجمة المفاهيم الموسيقية إلى صور مجازية في الدماغ، وبالتالي قد يشرح ذلك سبب استجابة الناس للموسيقى الحزينة كحزينة أو الراقصة كراقصة، فمثلًا حينما نستمع لنغمات متصاعدة السرعة فإننا نحولها إلى مشهد دماغي "كان صورة حقيقية أو حسّية" تتصاعد فيه درجات، وبذلك يُمكن تحويل الموسيقى كأي شيء آخر واقعي إلى صور دماغية مقروءة.
التوقعات الموسيقية
وأخيرًا، تطرقت دكتورة لبنى، إلى آلية سادسة مُهمة تتعلق بتوقعاتك الموسيقية؛ حينما مثلًا تستمعي إلى مقطوعة موسيقية، ثم فجأة تشعري بأن هناك نغمة شاذة، رغم أنك لا تمتلكين أي معرفة موسيقية مُسبقة بتلك المقطوعة أو بالموسيقى نفسها؛ لكن ما يحدث هنا، هو أن للبشر توقعات عن الأنماط.
على سبيل المثال، دعنيي عبر بيانو أو جيتار أعرض عليكِ النغمات "دو"، ثم "ري"، ثم "مي"، ثم "فا"؛ هُنا إن كانت النغمة التالية ليست "صول" ستشعرين بدرجة من الاختلاف في العرض، يتشابه ذلك مع درجات ارتفاع وانخفاض التردد تدريجيًا.
في تلك النقطة تُشبه توقعاتك عن الموسيقى توقعاتك عن اللغة، والتي تتكون من مقاطع محددة متوقعة الانتظام، ولهذا السبب يرتفع حسّك الموسيقي بارتفاع مستوى تدريبك، يشبه الأمر قدرتك على اكتشاف خطأ نحوي في مقال صحفي ما، حيث مع التدريب والقراءة المتواصلة يصبح لديك حس لغوي دقيق تكتشف معه حالات الشذوذ بسهولة.
لذا فإنه من الطبيعي أن نتوقع أن الاضطرابات في المناطق المسؤولة عن اللغة بالمخ تترافق مع اضطرابات في قدرة البشر الطبيعية على توقع نمط الموسيقى بعد كل شيء. وكما قال نيتشه، ربما، هي صورة بدائية من اللغة.
إن الموسيقى هي "صوتّ له زمن، وصمتّ له زمن"، فالموسيقى ليست هي فقط الصوت العذب الصادر من الآلة، وإنما هي جدلية الصوت مع الصمت، تراقص الأضداد الذي ربما يصنع لهذا الكون طعمًا؛ وهنا، نستذكر ما قاله فيكتور هوجو ذات مرة: "الموسيقى تعبّر عن أشياء لا يُمكن أن تبقى صامتة، لكن أيضًا لا يُمكن التعبير عنها بكلمات"!