"The Banshees of Inisherin".. فيلم شاعري ظلمه الأوسكار ودراما حزينة ومرحة عن الوحدة وروتين الحياة!
في فيلم "The Banshees of Inisherin" "نائحات إنشيرين" يعيش الموسيقي المحلي المغمور كولم على جزيرة إنشيرين المعزولة، وذات صباح يقرر إنهاء علاقته مع صديق عمره بادريك، يخبره بحسم أنه يحبه ويقدره، ولكنه لا يرغب في أن يتكلم معه على الإطلاق مرة أخرى، وبادريك صديق لطيف ومُخلص ومعروف بدماثته وتعاطفه مع جميع من حوله، وطوال أحداث الفيلم يُحاول فهم سبب هذه القطيعة الحادة ليُعالج الأمر بينه وبين صديقه الوحيد، ولكن الأمر أصعب وأعقد من حسابات عقله البسيط، وعلى أرض الواقع قررت لجان تحكيم أكاديمية العلوم الفنون الأمريكية حرمان الفيلم من أى جوائز أوسكار ذهبية دون سبب واضح أيضاً؛ فقد ترشح لتسع جوائز (أربع عن التمثيل بالإضافة إلى أفضل فيلم ومخرج وموسيقى وسيناريو ومونتاج)، لكنه لم يفز منها بشىء.
ربما لم يعد يحبك!
يرسم الفيلم لوحة حزينة عن الوحدة والملل والبحث عن قيمة الحياة، وكذلك لوحة بصرية جميلة لجزيرة تمتد فيها المساحات الخضراء أسفل السماء الزرقاء الصافية، وتبدأ حكايته بأزمة بطله التي تبدو تافهة؛ فقد قرر كولم (برندان جليسون) فجأة إنهاء صداقته الطويلة مع بادريك (كولن فاريل) دون أى سبب واضح، وهذا الحدث الغارق في البساطة تزداد تداعياته عُمقاً وعُنفاً وكوميدية أيضاً خلال أحداث الفيلم البطيئة.
تدور الأحداث في العشرينيات، بعد حقبة الحرب الأهلية الأيرلندية أو ربما في نهايتها، ومسرح الأحداث جزيرة إنيشيرين الخيالية، وهى جزيرة معزولة يعيش عليها عدد قليل من السكان المسالمين، يعرف الجميع بعضهم البعض، ولا شىء تقريباً يحدث في هذا المكان الهاديء، وأى حدث عابر تتناقله الألسن كأنه خبر هام.
جزء من تفاصيل الحياة اليومية لبادريك لقاء صديقه كولم يومياً في الساعة الثانية بعد الظهر، وتبادل الحوارات الروتينية في حانة الجزيرة، ولا يبدو الأمر بالنسبة لبادريك مجرد تمضية وقت لطيف، فهذه اللقاءات بكل ما بها من ملل وأحاديث مُكررة هى جوهر حياة بادريك، ومصدر سعادته والوقود اليومي الذي يجعله يستمر في الحياة.
قرار كولم يُثير دهشة بادريك وإرتباكه؛ فهو شخص معروف بالطيبة واللطف والبساطة، وأخر شيء يتوقعه هو تجاهل صديق عمره بهذه الحدة والحسم، وتُخبر شوفان (كيري كوندون) شقيقها بادريك: "ربما لم يعد يُحبك"، ولكن هذا الطرح عبثي ولا يُصدق بالنسبة لبادريك؛ فهو لم يفعل شيئاً يستحق فقدان حُب صديقه، ويبدأ في مهمة يظنها سهلة لإستعادة صداقته، لابد أن قال شيئاً أو فعل شيئاً أغضبه، وعليه إصلاح الأمر والعود إلى دائرة صداقتهما المعتادة.
الحقيقة التي يصعب على بادريك إدراكها وإستيعابها أن صديقه كولم يعيش نوع من الإكتئاب الوجودي الغامض، وهو يُدرك أن سنوات عمره تضيع دون إنجاز أى شىء يُخلد إسمه، ويجعل لحياته على الأرض جدوى، وهو يُحاول تركيز وقته على إنجاز بعض مقطوعات الموسيقى الشعبية، ويجد في صديقه بادريم مصدر إلهاء يجب التخلص منه.
البحث عن العائلة المفقودة!
يأتي عنوان الفيلم The Banshees من مُصطلح ينتمي لعالم الأساطير الشعبية الأيرلندية، وهو يعني الجنيات النائحات، وهن نذيرات شؤم، ويرتبط ظهورهن بالموت القريب لأحد الأشخاص، ويبدو أن كولم الذي دخل في أزمة وجودية حول جدوى حياته شعر بقرب أجله، ولهذا قرر أن يترك إرثاً من نوع خاص، ولكن بادريك الذي يحلب الأبقار كل يوم يجد قيمة الحياة في العيش والإستمتاع بالروتين اليومي، وهو يرفض موقف صديقه ويظنه مُجرد نزوة عابرة.
السيناريو يرسم شخصيات الفيلم وحيدة، وتربط بينها علاقات بسيطة تجمعهم سوياً، على جزيرة هادئة لا تعرف الصخب والزحام. يعيش كولم وحيداً بصحبه كلبه في منزل مٌنعزل على أطراف الجزيرة، وهو شخص بلا عائلة، وبادريك أيضاً شخص لم يتزوج، ويعيش مع شقيقته شوفان، المُحبة للقراءة، وهى لم تتزوج أيضاً، ويعيش معهما بشكل مؤقت دومينيك (باري كوجان)، وهو شاب مُتأخر عقلياً يُعاني من إعتداء والده الشرطي الفظ، ويجد الدفء العائلي في منزل بادريك وشقيقته، ويُحاول الحمار الصغير جيمي الدخول للمنزل بحثاً عن الونس والدفء ولكنه شوفان تطرده.
رغم الدفء الظاهر داخل منزل بادريك لكنه دفء يفتقد روح عائلية حقيقية. شوفان هى النموذج الوحيد للأنثى في الفيلم، الأكثر ذكاءً وطموحاً من شقيقها، وترددها في قبول وظيفة بمكتبة في المدينة لأنها تشعر بالإلتزام برعاية بادريك والمزرعة.
روتين الحياة اليومي!
يبرز الأداء التمثيلي في الفيلم بشكل كبير؛ فنحن أمام عمل لا تجيد شخصياته الكلام المنمق، ولكنهم يُطلقون العنان للمشاعر التلقائية، وهذا سر سحر الفيلم، وكثير من مشاهده تعتمد على تصوير رغبة الشخصيات في الحديث عن أشياء لا يستطيعون التعبير عنها على وجه الدقة؛ يُعبر بادريك عن دهشته بهمهمات تدل على عدم الفهم، وعيونة تتركز دائما على صديقه؛ فهو عالمه الحقيقي وليس مجرد رفيق وصديق، وعلى العكس يبدو كولم شارداً حالماً، يتحدث دون أن ينظر إلى أحد تقريباً، ودومينيك المُرتبك يُحاول فهم الحياة والمعاناة التي يعيشها ويعوقه افتقاره للذكاء عن إدراك أزمته والتعامل معها ومع الأخرين، لكنه يتخذ من بادريك ولطفه مثالاً وقدوة، وتُحاول شوفان التعايش مع رجال فقدوا عقولهم تقريباً، ويُمزقها طموحها والرغبة في البقاء لرعاية شقيقها.
الشخصيات التي جسدت الأدوار الرئيسية "كولن فاريل" و"برندان جليسون" و"باري كوجان" و"كيري كوندون" حصلت جميعها على ترشيحات أوسكار التمثيل، وعشرات من الجوائز والترشيحات الاخرى، وهو أمر مُستحق تماماً؛ فقد تمكنوا جميعاً من التعبير عن شخصيات صعبة تعيش أزمات حياة رتيبة ومملة، هناك رابط قوى يربط بينهم، ولكن كل منهم يعيش وحيداً رغم ذلك.
بعضهم يتقبل حياته رضوخاً وقبولاً مثل بادريك و دومينيك، والبعض الأخر يقاوم الواقع ويُحاول تغييره مثل كولم وشوفان.
نسخ المخرج "مارتن ماكدوناه" حكايته بحساسية شديدة لا تخلو من قلق مُقبض، وقد الجعل الُعنف يتصاعد بين الشخصيات نتيجة تأثير قرار كولم على حياة بادريك ومن حوله، يبدو كولم مُتعصباً ومتمسكاً بقراره إلى حد عبثي وجنوني، ولا يُدرك بادريك ذلك فيظل يتقرب من صديقه بإلحاح يُشعل غضب كولم أكثر وأكثر.
الفيلم يرسم صورة قلق الحياة وهاجس الموت بصورة مرهفة، ولا تخلو تلك العلاقات من لمسات مرحة، ولكن المشاعر القابعة في أعماق الشخصيات كئيبة، ولا تبدو مُتيقنة من أى شيء.
الصورة من حساب الفيلم على " تويتر"