التبرع بالكبد.. يوقد شعلة الأمل بحياةٍ جديدة
في عالمٍ يحفل بالتحديات الصحية المتنامية، يُعتبر التبرع بالكبد أحد أسمى أعمال العطاء الإنساني. فالكبد عضوٌ حيوي لا يمكن للإنسان الحياة بدونه؛ ولأسبابٍ مرضية عديدة تتعلق بالوراثة أو أنماط الحياة، أو حتى الحظ العاثر، قد يتعرض الكبد لمشاكل أو إصاباتٍ تصل لحدود تلفه بالكامل.
لكن التطور الطبي منح القدرة على زراعة كبد جديد من متبرعٍ مُتوفى، أو زراعة جزءٍ من الكبد من متبرعٍ حي؛ حيث يمكن للكبد إعادة تجديد نفسه ونموه لحجمه الطبيعي. والكبد ضروري للمساعدة على هضم الطعام من خلال إنتاج العصارة الصفراوية، تخليص الجسم من الفضلات، تخزين المعادن والفيتامينات، وإنتاج مواد يُطلق عليها تسمية "عوامل التخثر"، التي تحافظ على تدفق الدم بشكلٍ سليم، فضلاً عن مهام أساسية أخرى.
يُعتبر التبرع بالكبد عمليةً جراحية مُعقدة تنطوي على نقل جزءٍ من كبد متبرعٍ حي أو كبدٍ كامل من متبرعٍ متوفى إلى مريض يعاني من فشل كبدي. وهذا الإجراء الطبي لا يُنقذ حياة المريض فحسب، بل يُعيد له أيضًا الأمل في العيش بجودة حياة أفضل.
وقد أولت دولة الإمارات العربية المتحدة اهتمامًا بالغًا بمسألة التبرع بالأعضاء، انطلاقًا من إيمانها العميق بأهمية هذه البادرة الإنسانية النبيلة؛ وأطلقت دعمًا لإيمانها هذا من خلال البرنامج الوطني للتبرع وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية "حياة" الذي يُجسَد منظومةً وطنية لتعزيز جهود التبرع وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية، وفق أعلى المعايير والممارسات العالمية في دولة الإمارات والمنطقة. وتماشيًا مع هذه الرؤية، يبذل مستشفى كليفلاند كلينك أبوظبي جهودًا حثيثة لتبنَي أحدث التقنيات والإجراءات الجراحية المستخدمة في عمليات زراعة الأعضاء، ومنها الكبد.
للحديث عن هذا الموضوع، قدم لنا الدكتور كريستيانو كوينتيني، رئيس معهد أمراض الجهاز الهضمي من مستشفى كليفلاند كلينك أبوظبي، معلوماتٍ كافية ووافية حول إجراء التبرع بالكبد.
التبرع بالكبد.. كليًا أو جزئيًا
قال الدكتور كوينتيني: "يمكن الحصول على كبد لزراعته في جسم المُتلَقي من مصدرين، أولهما المتبرع المتوفى دماغيًا، حيث يتم تحديد الوفاة وفق معايير معينة، ليُصار إلى أخذ الكبد بعد سلسلةٍ من الاختبارات والفحوصات، ونقله إلى جسم المُتلَقي. أما ثاني مصادر الحصول على كبدٍ لزراعته، فهو من متبرعٍ حي. فنظرًا لأن الكبد يتمتع بقدرةٍ كبيرة على تجديد نفسه، يمكن أن نتوقع لهذا العضو أن يُجدَد نفسه حتى مع إزالة نسبةٍ تصل إلى 70% منه. وعادةً ما تحدث عملية التجديد خلال فترةٍ تتراوح بين أربعة إلى ستة أسابيع، ليعود الشخص لحالته الطبيعية. والأمر المميز هنا أن الكبد يُجدَد نفسه حتى في جسم المُتلَقي؛ وبهذه الطريقة، يمكن نقل جزءٍ كبير من الكبد من شخصٍ سليم، والذي عادةً ما يكون أحد أفراد الأسرة أو أحد المعارف، إلى المُتلَقي. وتُعتبر هذه العملية أكثر صعوبةً لأننا نتعامل فيها مع شخصٍ حي، لذلك يتعين علينا إجراء العملية بطريقةٍ تحافظ على وظيفة كبد المتبرع. هناك أيضًا الكثير من التعقيدات الفنية بالنسبة للمُتلَقي. ومع ذلك، يبقى هذا إجراءً روتينيًا ضمن برنامج زراعة الكبد لدينا،ويُسجل معدلات نجاحٍ مرتفعة للغاية. إنه خيارٌ متاح للمرضى الذين لم يعد الانتظار للحصول على كبد جديد خيارًامتاحًا لهم بسبب تدهور حالتهم الصحية."
وحول أهلية المُتلَقي والمتبرع لزراعة الكبد، أوضح الدكتور كوينتيني أن الأمر بسيطٌ بالنسبة للمُتلَقي؛ حيث يتعين على أي شخصٍ يُصاب بمرض الكبد في مراحله الأخيرة أو بسرطان الكبد، أن يفكر مليًا في عملية زراعة الكبد. وعادةً، هؤلاء هم المرضى الذين لديهم تاريخٌ طويل من أمراض الكبد، حيث نقوم بتقييم المريض للتأكد من قدرته على تحمَل إجراءٍجراحي بهذا الحجم؛ وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نضع المريض على قائمة الانتظار. أما المُتبرع الحي، فيجب أن يتمتع بصحةٍ جيدة، وعادةً ما يكون عمره أقل من 55 عامًا، ومن الواضح أنه كلما كان أصغر سنًا، كلما كان ذلك أفضل؛ ونقوم عندها بإجراء الكثير من الاختبارات منهاالتصوير الشعاعي واختبارات الدم ومجموعةٍ منالفحوصات المختلفة التي تهدف إلى التأكد من أننا لا نغفل عن أي شيءٍيتعلقبصحة المتبرع. وإذا كان المتبرع مؤهلًا وفقًا للمعايير، نمضي نحو إجراء الزراعة.
التبرع بالكبد.. وتوقعات الجراحة
أكد الدكتور كوينتيني أنه وعلى غرار أي جراحةٍ كبرى، فإن عملية التبرع بالكبد وزراعته تنطوي على درجةٍ معينة من المخاطر؛ لكن التطور التقني الحاصل خفَف كثيرًا منها. كما تحسنت مستويات رعاية المرضى بشكلٍ كبير، مع التقدم الذي شهدته تقنيات التخدير والعناية المُركزة والتقنيات الجراحية، فضلًا عن وجود كوادر تمريضٍ عالية الكفاءة وفريق رعاية متعدد التخصصات، يحرص على تلبية أدق احتياجات المرضى، وتقييم حالتهم بعنايةٍ فائقة قبل وأثناء وبعد العمل الجراحي لتقليل المخاطر المحتملة إلى أدنى حدودها.
بالعموم، سجلت عمليات زراعة الكبد ارتفاعًا في نسبة إنقاذ حياة المرضى،لتتجاوز المعايير الدولية لزراعة الأعضاء وتعافي المرضى بعد الزراعة. كما يمكن للمُتلَقي أن يعيش لمدةٍ تتراوح بين 30 إلى 40 عامًا مع الرعاية الذاتية المناسبة، وبدعم برنامج رعايةٍ عالية الكفاءة يُعزَز من إيجابية نتائج عملية الزراعة بشكلٍ ملحوظ.
التبرع بالكبد.. وضرورة اختيار مكانٍ موثوق
إن عملية زراعة الكبد هي إجراءٌ مُعقد بطبيعته، ويتطلب مهاراتٍ عالية، ومعداتٍ متقدمة، وخبراتٍ واسعة ومتخصصة، فضلًا عن منهجية رعاية متعددة التخصصات. ولذلك، أكد الدكتور كوينتيني أنه يتعين على المُتلَقين البحث عن مؤسسةٍ تتمتع بسجلٍ حافل بالنجاح على مستوى إجراء العديد من عمليات الزراعة، وتمتلك مرافق ومعداتٍ مناسبة ومتطورة. فالأمر هنا لا يتعلق بإجراء الجراحة فقط، بل بجودة الرعاية في وحدة العناية المركزة والتخدير والتمريض وخلال رحلة التعافي بأكملها.
في الختام؛ يُعدَ التبرع بالكبد من أروع أشكال العطاء التي يمكن أن يقوم بها الإنسان، لما له من أثرٍ إيجابي في إنقاذ حياة المرضى وإيقاد شعلة الأمل في قلوبهم بحياةٍ جديدة، وتخليصهم من المعاناة. كما أن الوعي بأهمية التبرع بالأعضاء وتقديم الدعم للأبحاث الطبية في هذا المجال، أمران حيويان لتعزيز فرص النجاح وتحسين جودة الحياة للكثيرين.
ولنتذكر على الدوامأنه من خلال التبرع بالكبد، يمكننا صنع فارقٍ حقيقي في حياة الآخرين وأن نتحول لسبب ارتسام ابتسامةٍ جديدة تُنير حياة مريضٍ وعائلته وجميع أحبائه.