
الدكتورة شذا عبدالغني صباغ تكتب لـ"هي" بمناسبة يوم التأسيس: من قصص عشق الوطن معرض "مجد مباري" الإمام تركي بن عبد الله
لا تزال رحلاتي عبر الزمن مستمرة في ظل عطاء الدرعية التي لطالما أبهرتني في كل مره أزورها. وهذه المرة أخذتني آلة الزمن إلى حقبة الإمام تركي بن عبد الله الرمز التاريخي والشخصية العظيمة مؤسس الدولة السعودية الثانية. ومنذ اللحظة التي دخلت فيها إلى معرض "مجد مباري" تجسد أمامي الإمام تركي بن عبد الله يحكي لي قصته الملحمية التي استعاد فيها الدرعية بسيفه الأجرب بعد فترة من الفوضى السياسية.
أسمع صوته العميق المليء بالشجاعة والعزيمة يلقي قصيدته المشهورة التي توثق معركته ودأبه لاستعادة أرض أجداده، ومنها البيت الذي أشعر فيه بسيفه الأجرب "خويه" (تعني الصديق والرفيق) الذي كان يده الحديد التي قرع بها طبول النصر قائلا:
يومٍ ان كل من خويه تبرّا حطيت الأجرب لي خويٍ مباري
ويستعرض الفيلم "خويٍّ مباري" هذه القصيدة المصورة لتجربة تفاعلية بالمؤثرات البصرية والصوتية وتمثيل التسلسل الزمني للأحداث. وعرض مقاطع من الكتب التراثية التي خلدت اسم الإمام تركي بن عبدالله وإرثه الحافل بالقيم والقصائد.
برؤيته الثاقبة وقيادته الحكيمة عادت الدرعية، وتأسست الدولة السعودية الثانية في عام 1824. واليوم وبعد مرور 200 عام يعيد هذا المعرض إحياء ذكرى حقبة من الزمن في تأسيس الدولة السعودية التي توحّدت تحت راية واحدة ليصبح خطا فاصلا في تاريخ المملكة.
بتصميم فريد يجسد روح المكان يتوسط المعرض حي البجيري المطل على مشارف حي طريف التاريخي معقل الدولة السعودية الأولى. حيث من هنا بدأت الحكاية حكاية أسرة أنجبت قادة شجعانا ملهمين أصروا واجتهدوا حتى أسسوا ووحّدوا. وما أكاد ألبث لحظات في الواقع حتى أعود لأسافر عبر آلة الزمن، لأسمع الإمام تركي يقول: "أنا أحمد اللي جاب لي ما تحرّا.. واذهب غبار الذل عني وطاري". وأقول له اليوم لقد أذهبت عن كل سعودي غبار الذل بمساهمتك الجليلة في كتابة حكايتنا حكاية كل سعودي على أرض المملكة العظمى. حيث يشهد الأجرب ورمال الدرعية وحجارتها وقصر سلوى وبيوتها الطينية وأسوارها ومياه وادي حنيفة، ونشهد نحن على هذه الملحمة الوطنية التي ستبقى عظيمة شامخة تحت ظل قيادتنا الرشيدة. ونحن اليوم أبناء السعودية نحتفل بيوم التأسيس السعودي الـ298 ونحتفل بحكاية القائد الإمام تركي بن عبدالله وحكاية أمة.
ويغوص المعرض في قصص ما قبل العهد الثاني وقصة صراع البقاء بين الإمام تركي وإبراهيم باشا الذي قال عنه "إن تركي، وهو من البقية الباقية من آل سعود، رجل عنيف، وعنيد، وثائر متمرد، ولا يمكن الركون إليه". لم تفلح الدولة العثمانية لا بقوتها ولا بعتادها أن تغلبه. فالبقاء ليس دائما للأقوى، بل للحق، وبذلك استطاع من له الحق الإمام تركي ببصيرته ودهائه وحنكته وتكتيكاته العسكرية استعادة أرضه وانتزاعها من قبضة العثمانيين، ليعيد بناء قصر الحكم في قلب مدينة الرياض شامخا حتى اليوم. وصدق المؤرخ فلبي عندما قال عنه: "روح الدفاع عن الدرعية"، فقاتل الإمام تركي ببطولة وبسالة حتى رحل العثمانيون، ونجح بعزم وإصرار في استعادة السيطرة على المناطق المحيطة بالرياض، واسترد أكثر المناطق التي كانت تابعة للدولة السعودية الأولى، وضم الأحساء والبحرين وعمان إلى جانب نجد قائلا: "أنا ردّاد أرضي".
ويعيد المعرض تصور "غار تركي" الذي كان في جبل عليّه بقرب الخرج حينها شعرت برهبة المكان، فأغمضت عينيّ لأرى الإمام تركي داخل الغار الذي اتخذه ثكنة عسكرية يخطط بحنكة ومهارة، متسلحا بالإيمان والصبر حتى تحين ساعة الحصار التي استمرت عاما كاملا حتى أعاد مجده وعزه. وحينها تساءلت إن كان هذا الغار سبباً في ولادة قصة حب عفيف بدأت أثناء إقامة الإمام تركي في الغار لمدة عامين حينها صادف ابنة قبيلة العجمان هويدية بنت غيدان آل زميكان آل شامر ترعى الغنم، وأصبحت تسقيه الحليب في كل يوم، وتكتمت على مكانه، وبعدها تزوجها لينجبا ابنا أسماه جلوي (من الجلاء)، لأنه ولد أثناء جلوة والده من ديرته. وكانت هويدية له العون والسند، وحاربت عشيرتها بضراوة مع الإمام تركي في معركة السبية عام 1830م لاستعادة حكم أجداده، وكانوا خير نصير له ضد الخصوم.
لعب الإمام تركي دورا محوريا في إرساء قواعد الدولة السعودية الثانية التي أعادت كتابة التاريخ وحاضر ومستقبل المملكة، ويُعتبر الإمام تركي الفارس النبيل رمزا للعدل والحكمة، ونموذجا يحتذى به في القيادة. بنى الرياض وزيّنها بأعمال معمارية وهندسية على النمط النجدي، فقام بتوسعة قصر الحكم وإعادة بناء أسوار الرياض التي جعلها عاصمة الدولة السعودية الثانية بعد أن دمر العثمانيون الدرعية، وبناء الجامع الكبير جامع الإمام تركي بن عبد الله الذي ما زال موجودا ويصلي فيه الناس إلى اليوم. ولقد مر الجامع بعمليات توسعة وتجديد مستدامة عبر تاريخه، وهو حاليا ضمن المشاريع التطويرية للهيئة الملكية لمدينة الرياض.
ازدهر عهد الإمام تركي في الزراعة والتجارة وأمَّن طريق الحجاج، واهتم بتعزيز التعليم والدين ودراسة مختلف العلوم، وقدَّر المعلمين والعلماء، حيث أسس الكثير من المدارس، ليصبح العلم حجر الزاوية في المجتمع السعودي، ووجّه بالقضاء العادل، والإحسان للأرامل، والأيتام. وساد الأمن والأمان أرجاء البلاد، وهو ما أتاح للناس العيش في رغد ورخاء.
استشهد الإمام تركي بن عبدالله في عام 1834 بعد حُكم دام عشر سنوات، لكن إرثه يجري فيه دماء كل سعودي، فقد ترك خلفه أبنائه، أبناء جبل طويق، الذين يواصلون المسيرة ليبقى إرثه شامخا في الذاكرة الوطنية إلى اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وننعم بوطن يسوده الازدهار والاستقرار.
وبعد أن سافر بي المعرض عبر آلة الزمن عدت إلى واقعي "جاتني العبرة" (دمعة قبل أن تفيض)، وكلي فخر واعتزاز بكوني ابنة الإمام تركي وابنة هذا الوطن. حيث يعد معرض الإمام تركي بن عبدالله بن محمد آل سعود توثيقا إبداعيا وفعالية ثقافية جوهرية يحتفي بتراث وتاريخ شخصية فذة من تاريخ المملكة ومنصة مهمة للحفاظ على التاريخ السعودي. ويعكس المعرض الروح الحية للتراث، ويُبرز الحصيلة الثقافية والتاريخية التي تمتلكها مملكتنا العظيمة. ويهدف معرض الإمام تركي بن عبدالله إلى إحياء ذاكرة هذه الشخصية التاريخية الملهمة من خلال سرد مشوّق لقصته وتعريف مهم ببداية بناء اللبنة الأولى لتأسيس عاصمة المملكة الرياض. كما يسعى المعرض إلى تعريف الزوار من السعوديين والأجانب بتاريخ المملكة والتراث الثقافي الغني لتقدير تاريخ وثقافة المملكة، ويعكس التزام الحكومة السعودية بالحفاظ على هذا التراث الثقافي الثري وتعليم الأجيال الجديدة مفهوم الهوية الوطنية، وتعزيز روح الولاء والانتماء والاعتزاز بالماضي وبالتضحيات التي قدمها الأجداد والآباء في سبيل بناء وطن قوي ومزدهر، وهو ما يسهم في تكوين مجتمع واعٍ بأهميته وبتراثه وقيمه الثقافية، ويدفعنا إلى مواصلة السعي نحو مستقبل أفضل، حيث نعمل معا من أجل الحفاظ على هويتنا الوطنية، ورفع راية بلادنا عاليا. وتهدف المملكة إلى الاستمرار في إقامة مثل هذه المعارض لإدراكها بأهمية الدراسة التاريخية والتقدم الثقافي لتروي لنا حكايات من المجد شكلت مجرى التاريخ وقصص عشق الوطن وفخر أبنائه على مر العصور. ودام عزك يا وطن.