من هي؟
تستفزني جدا في كثير من الأحيان الأسئلة أو الموضوعات البسيطة، أو السهلة، للوهلة الأولى إذ إن البساطة عادة تكون صعبة التنفيذ. والاستفزاز هنا المقصود به الاستفزاز الجيد، أو الاحتكاك الذي يحرك مشاعرك وأفكارك، حيث يجب عليك النظر إليه من زاوية أخرى، أو تفسير معاصر، أو رؤية مستقبلية، أو إعادة النـظر. الأسئلة البسيطة عادة أجــوبتـــــها غيــــر سهــلــــة، وهنــــا يجــــب التــفــــريق بــين المعنيين: البساطة والسهولة.
حــــــديـــثي مع فريق مجــلة "هي" لاختــيـــار فــــكــرة لهذا المقال، تزامن مع تقديم المملكة العربية السعودية ملف استضافة إكسبو 2030، وتم الاقتراح أن أكتب عن تأثير هذه الاستضافة في المشهد المعماري السعودي. حقيقة لم أتحمس لهذه الفكرة، وأحسست أنها فكرة عادية تكتب في خبر عن استضافة إكسبو، لكن هذا الشعور استفزني، إذ إنني كلما تجاوزت بعض نقاط البحث في الموضوع، وجدت نفسي أسرح في شكل المملكة ككل، وليس المشهد المعماري أو التصميمي فقط، ولكن كيف سيكون شكل السعودية في 2030 أصلا! من الناحية الشكلية الجمالية، أو الاجتماعية أو الثقافية؟ مما لا شك فيه أنه شكل مختلف عن الماضي، والحاضر، ولكن كيف؟ هذا هو التساؤل الذي أرجع إليه كلما بدأت في الكتابة، وقررت أن يكون هذا هو فحوى المقال. ومن هنا تبين لي ذكاء الزميلة في بساطة سؤالها، لتأخذني إلى معانٍ أكبر مما بدا لي أول الأمر.
قد نغفل عن بعض البديهيات أو الأمور التي نراها نوعا ما من المسلمات أو الأمور العادية التي تمر في حياتنا اليومية، فالشكل المعماري للمملكة في 2030 بدأ يظهر، فكـــل يـــــوم نــــرى تصـــامـــيـــم لأمــــالا، ذا لايــــن، البــحـــر الأحــمر، القدية، بوابة الدرعية، مشروع تنمية تاروت، ومدينة نيوم التي فيها تروجينا، سيندالا، وأوكتاقون، وأيضا تنمية البلد في جدة، وإعادة إحياء التراث في الطائف بمزارع الورد التي تتهيأ لتصديره للعالم كمنتج سعودي.
فلنبدأ بالمعلومات الرئيسية، عام 2030 بعد 6 سنوات، وتم إعلان الرؤية في يوم 25-4-2016، أي قبل 7 سنوات، تقريبا نحن في المنتصف، وهو وقت مناسب للتوقف والتأمل قليلا، لقد تغيرت المملكة والسعوديون والعالم أجمع في هذه السنوات الست، من جميع النواحي وعلى جميع الصعد وعلى المجتمع بأكمله، أضف إلى ذلك حدوث جائحة كورونا وما تبعها من تغيرات في حياتنا اليومية، تغيرات قد تبدو صغيرة، ولكن تأثيرها كبير جدا، وبعضها تغيرات لا رجعة بعدها كما يقال. قد نغفل أننا نحن أيضا نتغير في الوقت نفسه الذي تتغير فيه الحياة من حولنا، وإن لم يكن للأمرين علاقة مباشرة ببعض، إن صح التعبير. في عام 2030 الأشياء الجديدة علينا الآن أصبحت اعتيادية، ستكون المرأة قد قادت السيارة منذ أكثر من 10 سنوات، السياحة داخل المملكة شيء معتاد أيضا منذ ما يقارب 10 سنوات، الحكومة الإلكترونية اكتملت، وتطورت أكثر بشكل لا نستطيع تخيله، العلا والطائف والبحر الأحمر والسودة وجهات سياحية طوال السنة، في الرياض سيكتمل المترو، ويزداد عدد السكان على 12 مليونا، مدينة عالمية وحاضرة اقتصادية، المركز المالي سيكون عمره قارب العشرين سنة، المؤتمرات والاحتفالات والمناسبات والفعاليات جزء من يومنا، وليس شيئا مستحدثا، سيكون مشروع الرياض الخضراء قد باتت معالمه واضحة إن لم يكن قد افتتح جزئيا، حديقة الملك سلمان تتوسط الرياض، وبوابة الدرعية وحي الدحو، وتطوير داخل المدينة شيء عادي غير لافت، مناطق حديثة ومناطق تختلف تضاريسها ومعمارها وهويتها، تصلها مشيا على الأقدام أو عبر المواصلات العامة أو الخاصة، سيكون مشي الناس في الطرقات الخضراء والساحات والحدائق مشهدا عاديا جدا. من الناحية الاقتصادية ستكون الرياض (والمملكة عموما) عاصمة للتجارة والمال والأعمال المتنوعة من الصناعات العسكرية إلى الموضة، ومن السينما إلى الأغذية. المناطق السكنية ستتغير بتغير متطلبات السكان. وستتغير وتتنوع تركيبة السكان بين المواطنين والسياح وزوار بيت الله الحرام والمدينة المنورة.
سيكون البلد في جدة حيا من أحياء ألف ليلة وليلة بشكل عصري. ومما لا شك فيه أنه ستنتشر فيه الأبنية السكنية المرممة، وتحتها المطاعم والمقاهي والمتاجر والبوتيكات، سنتعرف إلى ثقافات سعودية لم نكن نعرفها مثل جزيرة تاروت ودارين، حيث سيتم استثمار 206 مليار ريال، لجعلها وجهة سياحية ونقاهة بين تراثها القديم الذي يتجاوز الـ5 آلاف سنة ومزارعها وحدائقها، سيدخل إلى الذاكرة الجمعية السعودية أن السعودية ليست فقط ما تتخيله أنت الآن، أيا كان ذلك، تضاريس العلا وتاروت والسودة ومنظر مكة المكرمة والمدينة المنورة، القدية والمكعب، نيوم ومنتجعات صحراء الربع الخالي. ستكون وظائف الناس بذات التنـــوع، ستقـــابل الكاتــــــب الروائي والمصور والستايلست (المنسقة) ومهندس الديكور، ورائدة الفضاء، وعالمة الآثار ومخرجة السينما والوزيرة، ومهندس جودة الحياة وخبير الذكاء الصناعي. قد يجتمع هذا كله في بيت واحد أو عمارة سكان عصرية واحدة. سيعمل الجميع في كل مكان، ويسافرون بخطوط طيران جديدة، أولها الرياض للطيران. ستظهر أول نتائج برنامج جودة الحياة، سيتغير شكل الصحة والتعليم. وسيتغير مفهوم الجد والجدة بشكلهم التقليدي. تجمعات العائلة سيكون لها شكل آخر بسبب تنوع الوظائف وأوقات الأعمال، سيختلف لبسنا وأكلنا وحتى أجسامنا مع ازدياد الاهتمام بالرياضة وممارستها. عادات جديدة ستظهر، وأخرى ستندثر، وأخرى سوف تحيا من جديد. حنين الماضي سيرجع بشكل أو بآخر ليعيد صياغة ثقافة المجتمع كما هو الحال دائما في المجتمعات، كل ذلك سيخلق بلا شك هوية جديدة للمملكة وشعبها. الجميل في ذلك أنها ثقافة وطنية نابعة من المجتمع نفسه لتلبية تطلعاته وحاجاته ورؤيته وأحلامه، ليست دخيلة أو وليدة اللحظة، ولكنها خطة رسمتها بدقة قيادة المملكة، وتركت فيها مجال الابتكار والإبداع والخيال للمواطن.
كلمة الخيال هنا هي مربط الفرس، لا نعلم كيف سيكون شكل المملكة عام 2030 أو من هي؟ لكن لدينا ملامحها الآن التي بانت لنا، فلنتخيل لو استضافت الرياض معرض إكسبو 2030، الذي سيكون علامة فارقة في تاريخ المملكة، ويؤذن ببداية جديدة لنقطة انطلاق ما بعد 2030. من بعد ذلك أترك لكم حرية الخيال لشكل المملكة المستقبلي، وحرية أن تكون من أرادت أن تكون.
وكل عام ومملكتنا الحبيبة بألف خير.