التعليم هو الفخامة الحقيقية؟
بقلم د. إسراء الشطي
اختصاص إدارة صناعات فاخرة وإدارة انطباع
لطالما كان مفهوم الفخامة متعدد الأوجه ومثيرا للاهتمام. البعض يرى الفخامة على أنها راحة البال الناتجة عن السفر أو تحقيق الذات، بينما يربطها آخرون بالحصول على منتج أو الاستمتاع بخدمة حصرية. بدأ استكشافي لهذا المفهوم المعقد في الكويت، وهي بلد يولي أهمية كبيرة للتعليم. نشأت في عائلة تقدّر العلم، وكان لديّ رغبة قوية في توسيع آفاقي. لكن رحلتي للدراسات العليا خارج بلدي الكويت واجهت مقاومة من والدي في البداية. على الرغم من إيمانه بالتعليم، كان قلقا من فكرة سفر ابنته إلى الخارج. ومع ذلك ظل دعمه لنموّي الفكري ثابتا، وهو ما أتاح لي فرصة الالتحاق بجامعة في الجمهورية الفرنسية لتكملة دراستي العليا في مجال علوم الإدارة.
مع هذا الإيمان الراسخ بقوة التعليم، أثناء دراستي لعلوم الإدارة وتعمّقي في مفهوم "إدارة الانطباع"، من قبل أحد أبرز العلماء في القرن العشرين "إرفنغ – غوفمان"، حيث كنت دائما أفكر كيف تبني الدول والشركات والأشخاص السمعة التي يتفق عليها أغلب الناس، وكان المفهوم الذي يعتمد على فكرة أن الأفراد يقدمون أنفسهم بطريقة معينة للتأثير في كيفية رؤية الآخرين لهم، وهو مفهوم ضروري من ناحية سياسية واجتماعية واقتصادية وإدارية، وهو جزء من "الدراما الاجتماعية" التي تحدث في الحياة اليومية. لم يكن "غوفمان" يقتصر في نظرياته على إدارة الانطباع فحسب، بل كان مهتما بدراسة التفاعلات الاجتماعية بشكل أوسع، حيث ترتبط الأدوار الاجتماعية بالتصورات والأهداف الفردية.
لقد أثــــارت هذه المـفــاهيـــــم اهتـمـامي، وبعد النشر في الصحف العلمية في مـجـــال إدارة الانطبــــــــاع قــــررت دراســـــــــة الصناعات الفاخرة، وخاصة عندما تأملت في جوانب الفخامة المختلفة، وليس فقط من حيث المظاهر الخارجية، ولكن أيضا فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية والرمزية المرتبطة بالفخامة. أدركت أن إدارة الانطباع يمكن أن تُستخدم في عالم الموضة والفخامة لبناء العلامة التجارية وإنشاء تجربة لا تُنسى للعملاء. فضولي دفعني إلى التعمق في دراسة إدارة الفخامة، لرؤية كيف يمكن للشركات والمنتجات خلق صورة ذهنية مميزة وتأثير دائم في الجمهور.
كانت باريس تجربة حسيّة استثنائية، وهي تعد مركزا للعلم والثقافة، حيث بدأت رحلتي الأكاديمية بدعم عائلي رغــــم المــقــــاومـــــة الأوليـــــــة. ورغـــــم التـحــفــظـــات المبكرة، حيـــــث انغمست في نسيج المدينة النابض بالحياة والأحياء الجميلة التي تحـــتضــــــن الحــكــــايــــــات والشـــــــوارع الضيــــقــــــة المـــرصـــوفــــــة بالحصى وتضج بالحياة، والمقاهي المليئة برائحة المعجنات الطازجة، والمتاحف الأثرية والمتاجر والعلامات التجارية المرموقة في كل زاوية. هذه البيئة ألهمتني للاستكشاف وفهم عالم الفخامة، والكيمياء التي تحول المواد الخام إلى قطع فاخرة. وأثناء استكشافي لهذا العالم العريق، وجدت نفسي مبهورة بجمالياته وبالعملية الحرفية الدقيقة التي تصنع بها هذه المنتجات. ومع شغفي بالعلم وحب التاريخ والقراءة، أدركت أهمية المعرفة في عالم الفخامة خلال معيشتي في بلاد النور والحب.
بصفتي قادمة من منطقة الخليج، حيث يُقدَّر الجمال بشكل خاص، شعرت بتواصل طبيعي مع الفخامة الفرنسية. رؤية الأماكن التي انطلقت منها العلامات التجارية الشهيرة، وشهادة الحرفية التي تمنح الحياة لهذه الإبداعات، زادتا من شغفي بهذا المجال. منحني أصلي الخليجي منظورا فريدا، ومزيجا من الذوق الفرنسي وفهما عميقا لثقافة الخليج.
وعلى الرغم من أن المعرفة الأكاديمية كانت أساسا جيدا، إلا أن التفاعلات مع المحترفين في الصناعة أضافت بُعدا جديدا لتقديري للفخامة. بدأنا نتحدث عن نظريات مثل "الاستهلاك الظاهري" "لثورستين فيبلن"، التي تتحدى قواعد الاقتصاد التقليدية. نشر "فيبلن" كتابه "نظرية الطبقة المترفة" عام 1899، حيث وصف النخبة الاجتماعية التي تتباهى بثروتها من خلال الاستهلاك الواضح باقتناء السلع باهظة الثمن ليس لفائدتها وإنما لإظهار المكانة الاجتماعية. تتعارض هذه الفكرة مع القوانين الاقتصادية التقليدية للعرض والطلب، حيث يمكن أن يؤدي السعر الأعلى إلى زيادة الطلب في بعض الأحيان.
أثارت هذه الفكرة اهتمامي، وخاصة عندما نظرت إلى المناسبات في الخليج التي تبرز الكرم مثل حفلات الزفاف والتجمعات، حيث يعبر الناس عن سخائهم وكذلك من خلال الهدايا القيمة في بعض المناسبات.
لا شك في أن العلامات التجارية الفاخرة لاحظت هذه الفروق الثقافية. ومن خلال تعرفها إلى القوة الشرائية الكبيرة وتأثير منطقة مجلس التعاون الخليجي في تحديد الاتجاهات، فإنها تصمم منتجاتها لتلبي ذوق عملائها المميزين من خلال تصاميم خاصة وكبسولات حصرية. تعمل العلامات التجارية على تنظيم فعاليات فاخرة، وتهيئة حملات تسويقية تتناسب مع الثقافة المحلية، حيث تتضمن عناصر تصميم مستوحاة من التراث الغني للخليج.
ومـــع كــــل هذا، ظلــــت قنـــــاعـــــتي واحدة، وهي أن التعليم هو أساس الفخامة الحقيقية. إنه المعرفة التي تتيح لك فهم الجمال والجودة والحرفية. التعليم هو ما يمنحك الحرية للاستمتاع بالفخامة بشكل أعمق. فهو يمكّنك من تمييز القيم الحقيقية بعيدا عن البهرجة. في النهاية، التعليم هو الفخامة الحقيقية، لأنه يفتح أمامك الباب لاستكشاف العالم بشكل أعمق وأكثر معنى.
هــــذه التــجـــربــــــة غــــرســـــت في داخــــــلي إحـــســــاســــــا عـمــيـــقــــا بالمسؤولية. كأستاذة جامعية، أرى أنه من واجبي إشعال حب التعلم في الجيل القادم. العالم مليء بالمعرفة التي تنتظر الاكتشاف، ويجب أن يكون التعليم تجربة مشوقة، وليس مهمة روتينية. من خلال تطبيق أساليب تدريس جديدة مثل الذكاء الاصطناعي، وتعزيز روح الفضول، وإظهار التطبيقات العملية للمعرفة والتوسع في التخصصات مثل إضافة برنامج إدارة الصناعات الفاخرة وغيرها من تخصصات حديثة، يمكننا إشعال حب التعلم الذي سيستمر مدى الحياة.
التعليم هو الفخامة الحقيقية.